سنوات قليلة تعد بأصابع اليد الواحدة نقلت المواطن التونسي من معرفة أخبار الأحوال الجوية وتقلبات الطقس في بلده عبر نشرات الإخبار في محطات التلفزيون العربية والعالمية إلى علاقة عشق ومتابعة غير مسبوقة لكل المحطات التلفزيونية المحلية.

سقوط نظام بن علي حقق حلم كبير لكل التونسيين أنه يكون عندهم إعلام حر يعبر عنهم ويحكي مشاكلهم أحلامهم وقضاياهم، والحقيقة تجسدت على مستوى علاقة المواطن في العالم العربي بإعلامه الوطني، والمفارقة الأهم أن كل القنوات العربية على اختلاف إمكانياتها وتوجهاتها لم تعد مالكة لوجود إعلامي مؤثر في الرأي العام والشارع التونسي، بعكس سنوات حكم بن علي والتي كانت الناس تتسابق لتسجيل ومتابعة برامج حواريه تبث عبر الفضائيات وينقسم حولها الناس بين منتقد بعنف للنظام الحاكم ومدافع عليه وأغلبية خائفة تهرب للصمت لتبتعد عن المشاكل.

نجاح التجربة الإعلامية خلق مناخا ضاغطا على الأطياف السياسية والحكومات التي دخلت خلال السنوات الأربع في صدامات ومواجهات عنيفة مع وسائل الإعلام فشلت في مجملها في تركيعها أو تطويعها لتكون إعلاما ينفذ التعليمات ويبارك المنجزات.

الحلم بصمت الإعلام وتطويعه يلاعب خيال كل السياسيين لكن قدرة الإعلام في المرحلة الماضية على كشف العديد من الحقائق وفضح ملفات حارقة جعل من الحلم بعيد المنال وخلق حالة من الحماية المهنية والنقابية والشعبية لأي محاولة لضرب أهم مكسب تحقق للشعب التونسي.

عودة الحلم ليدغدغ رغبات السياسيين تجسد في مشروع قانون جديد تحاول الحكومة تمريره للجم الإعلام تحت مسميات عدة تستغل فيها التعاطف والتلاحم الشعبي بين الشعب ورجال الجيش والأمن في مواجهة الإرهاب، ومنع الإعلاميين من القيام بدور نجحوا فيه بشكل غير مسبوق في كشف الكثير من الحقائق التي عرت جرائم إرهابية وقعت وأجبرت حكومات على الاستقالة.

القانون المثير للجدل يجرم كل محاولات العمل الإعلامي لكشف الحقائق الغير معروفه وعدم ترك الحقائق مجهولة لإحداث حصلت أو قد تحصل بكل ما تعنيه من مخاطر تهدد تونس في حاضرها ومستقبلها.

الحكومة المتسرعة لمحاولة اغتنام الفرصة سقطت في فخ التسرع ودخلت في نفق أزمة مواجهة مجلس نواب الشعب والذي يجد جل أعضاء الأغلبية البرلمانية صعوبة فائقة في تمريره لمعارضة كل الإعلاميين ومنظمات المجتمع المدني وشرائح اجتماعية واسعة بسبب التضييق الغير مسبوق على حرية الوصول للمعلومات ونشرها، وهذه الأزمة تهدد بالارتداد لحضن الحكومة التي ستجد نفسها محرجة أمام رفض المجلس لمشروع القانون إذا لم تسارع بسحبة قبل بدء النقاش.

الخروج من أزمة كبيرة تهدد مستقبل حرية الإعلام في تونس سيكون على الحكومة التونسية وحدها مسؤولية تحمله، لأن حرية الإعلام مكسب لن يتم التراجع أو التنازل عنه مهما كانت التحديات التي سيواجهها الإعلام ومؤسساته والدخول في معركة ضد الإعلام نتائج خسائره ستقسم على كل المشهد السياسي التونسي لأن الإعلام الذي حمى تونس ووقف في مواجهة الردة والتطرف ومحاولات ضرب الديمقراطية إذا تم تحجيمه سيعيد الواقع إلى مرحلة الصفر من جديد، ويعود الناس للبحث عن أخبار وطنهم خارج الحدود لأنهم سيفقدون ثقتهم في الإعلام.

نظام بن علي الذي حارب بعنف حرية الإعلام وقمع حريته لم يستطع أن يمنع تحرك الشارع ضده رغم أن وسائل إعلامه لم تستطع أن تنقذه لحظة سقوطه لأنها لم تفهم أنها بلا مصداقية أمام الشعب الذي رحل بحكم بن علي في لحظة كان الإعلام يتحدث عن انجازاته المباركة.

&