&

أكثر مكان أعرفه في سوريا هو قرية صغيرة في هضبات الجولان اسمها بئرعجم. هي قرية مليئة ببيوت القرميد وأشجار السرو والكينا، وتقع على سفح جبل يطل على سهل حوران. في سماء بئرعجم البعيدة عن كل التلوث الضوئي تستطيع أن ترى درب التبانة وهو يتناثر عليك نجوما ويمكنك أيضا أن تدرس مواقع الكواكب والأبراج لنقاء جوها وهوائها. وبسبب وجودها بين تلال عديدة تهب عليها الرياح طوال السنة إلا أسابيع معدودة. ويعتاد من يعيش في بئرعجم أن ينام على صوت الرياح وهي تضرب الشبابيك طوال الليل. إلى الآن وبعد الكثير من السنوات وعلى بعد آلاف الأميال كلما سمعت صوت الهواء في الشجر أقول لأولادي بأن هذا هو صوت بئرعجم. أهالي بئرعجم من الشراكسة وأنا نصف شركسية فوالدي عربي وأمي شركسية. معظم الأيام التي عشتها في سوريا سواء في بعض سنوات الإبتدائي أوعطل الصيف لاحقا كانت في بئرعجم. كان بيت خالتي سعدية هناك مركزا عائليا لنا ولجميع الأقارب الذين يودون زيارة القرية. كنت أعرف معظم أهالي القرية وخاصة النسوة الكبيرات الحنونات من أمثال أم مرعي وأم علي. من وقت طويل اعتبرت أنني –ولا أزال— شركسية من بئرعجم.
هذا جزء من هويتي أخترت أنا أن احتضنه لأنه كان وبكل سهولة يمكن أن يكون غير ذلك. فهوياتنا تتعرض لغزوات عديدة، داخلية وخارجية، تداهمنا بغير إنذار. في أحد الأيام في طفولتي أتذكر أن خالتي أرسلتني إلى عند أم علي لشراء بعض الجبن، وفي طريقي إلى هناك استوقفتني سيدة يبدو أنها عرفت من أكون ولكنني لم أعرفها لأنها لم تكن من سكان القرية وسألتني: "هل أنت ابنة العربي؟" فأجبتها بسؤال غليظ مثل سؤالها: "ومما يشكو العرب؟" ولكنها غلبتي بالغلاظة عندما قالت "اسألي والدتك!" وتابعت طريقها. رائحة العنصرية البغيضة أزكمت أنفي حتى وصولي لعند أم علي التي استقبلتني كما العادة بكل ترحاب واستبدلت تلك الرائحة الكريهة برائحة الود والحنان. تبادلنا التحية وأخبار العائلة باللغة الشركسية وأرسلتني إلى البيت ليس مع الجبنة فقط ولكن مع حلوى لذيذة للطريق أيضا. الشعور الذي خلقته تلك السيدة في نفسي كان الشعور بأنني غريبة في قريتي. بأن هذا المكان ليس لي وأنني لا أنتمي إليه. ولكن أم علي استطاعت أن تعيد لي في عدة دقائق هويتي وتبين معي أن جواز السفر البئرعجمي ليس بيد تلك السيدة العنصرية ولكنه بيد أمهات القرية.
بعد تلك الحادثة بعدة سنوات كنت مع أهلي قادمين من السعودية إلى سوريا في رحلة برية بالسيارة. عندما اقتربنا من الحدود كانت مشاعرنا كلها في شوق وترقب لمقابلة الأهل والأصدقاء وطبعا لنسمات بئرعجم العليلة. عندما دخلنا إلى المبنى لننهي إجراءات السفر ونختم الجوازات كانت القصة مختلفة. جلس رجل بلباسه الرسمي يقلب جوازات سفرنا وهو ينفث الدخان من أنفه وسيجارة تتدلى من فمه بينما يسترق النظرات إلينا بريبة من خلف الأوراق. أشار لوالدي أن يذهب إلى غرفة أخرى لوحده. بعد مدة طويلة من الانتظار سألت عنه والدتي، فقالوا لها أنه اُعتقل!
كان الإحساس بالغربة مرة أخرى وهذه المرة على بوابة وطننا. داهمني شعور عميق بأننا غرباء بل ومختلفون لدرجة أن رجلا محترما مثل والدي صار مكانه السجن في تلك اللحظة بدل أن يكون بين أهله. العنصرية هي أن تُشعر الآخر بأنه مختلف وغير مرحب به. هل هناك عنصرية أكثر من التي شعرنا بها يومها؟! بعد الكثير من التلفونات والوساطات خرج والدي من بين أيدي المخابرات. وبعد تكرار الحادثة عدة مرات على حدود بلادنا تغلب الإحساس على والدي بأنه غريب في بلده وتوقف عن السفر إلى سوريا.
لذلك عندما كنت في جلسة أستمع إلى سيدة هنا في كندا وهي تتحدث عن كيف تزرع حب سوريا ودمشق وعاداتها في أولادها عن طريق بعض المسلسلات السورية وجدت نفسي أعيد التفكير في موضوع الانتماء والهوية التي نختارها. الهوية السورية التي اختارت السيدة أن تورثها لأولادها هي تلك القيم التي عفى عليها الزمن في عالم لا يعرف ولا يحترم حقوق الإنسان ولا الثقافة والعلم والتغيير. في أغلبيتها تبث أدبيات عن بطولات عنتر الحارة ونسائها حبيسات البيوت اللاتي لا يعرفن من عالمهن إلا أشغال البيت وطاعة رجال العائلة.&
الملفت للانتباه في هذه القيم التي تباع على أنها تمثل تاريخ سوريا وتاريخ أقدم عاصمة في التاريخ أنها انعكاس للواقع الحالي أكثر مما أنها صورة تاريخية صحيحة. فبعض الصور التي تؤرخ مظاهرة نسائية في الخمسينات في دمشق شيء يكاد لا يصدق. وسمعنا من أهلنا أن دمشق في الستينات من القرن المنصرم كانت مركزا للعديد من التيارات الفكرية والدينية والسياسية المختلفة. عندما انتقل والدي من مدينته القامشلي إلى دمشق للدراسة وجد نفسه على حد قوله في مدينة تعج بالحياة والثقافة وتبادل الأفكار وشعر بأنه وجد المكان الذي ينتمي إليه.&&
نظريتي أن الهوية التي تريد هذه المسلسلات الترويج لها تشبه الهوية التي أرادت الأنظمة المستبدة نشرها في المنطقة. أن حكم عائلات بالقوة والعنترية هو القانون. وأن تمسيح الشوارب وإطاعة القوي هو المألوف. ومن يريد أن يفكر بالديمقراطية وحكم القانون فسيجد نفسه غريبا ومرفوضا في بلاد تعزز وتروج للهوية القائمة على حكم أبو عنتر وفهلوياته.
عندما اندلعت الثورة في سوريا وتابعنا المظاهرات ونحن نكاد لا نصدق أعيننا، والأصوات التي كانت تنطلق في كل مكان لتنادي بنهاية حكم الاستبداد وبحق السوريين في العيش بكرامة وحرية ومن دون خوف، اكتشفنا كم كان الملايين في داخل سوريا وخارجها قد انهكتهم مشاعرالغربة والمرارة، كم أعياهم الإحساس بأنهم لا ينتمون لوطنهم لأن هناك من اختطفه من أهله وشعبه بقوة الخوف والإكراه.& ووجدنا معشر الغرباء بعضنا البعض واكتشفنا أن هويتنا السورية بدأت تعود لنا. لم يعد كون الإنسان سوريا يعني أنه إما مهمش بدون صوت أو أنه جزء من الماكينة التي تعمل للنظام الأسدي الذي اختطف البلد.
برغم العقبات والمصاعب والآلام المهولة التي تواجهها سوريا والتي لا تخفى على أحد إلا أن هناك إحساسا جديدا وقويا بالانتماء شد الكثير منا ليعود للتعرف على الهوية السورية التي كانت قد خطفت منا رغم الهويات الأخرى التي اندمجت في كياننا ايضا.
منذ عدة أيام كنت اتحدث عن الأوضاع في سوريا وفجأة سألني ابني "بشار الأسد من أين؟"
"من سوريا" أجبته.
"يعني سوري؟!" كان صوته لا يخفي التفاجئ.
"نعم!"
"كيف سوري ويقتل السوريين؟!"
"هذه هي المشكلة الكبيرة التي نحاول أن نحلها في سوريا. كيف نوقف ان يقتل السوري السوري."
"الذي يقتل السوري ليس سوري. وبشار الأسد ليس سوري." سحب طفلي الهويات السورية من القتلة بكل سهولة وقام للعبه وأشغاله.
وكما قررت التمسك بهويتي الشركسية يوما ما رغم رفض بعض الشراكسة لدمي الذي اختلط فيه الشركسي بالعربي أجد نفسي أعيد التمسك بهويتي السورية بعد أن كنا شعرنا أن من يريد الديمقراطية والتعددية وحرية التعبير لم يعد له مكان في سوريا—إلا السجن طبعا.
والآن يعرف أولادي أن سوريا هي حيث الشجاعة اللامتناهية في الوقوف ضد الظلم. وأن سوريا هي حيث تقبع قرية صغيرة لا تعرف أن تنام فيها ما لم تسمع صوت الريح في الليل.
&