لا جديد في الحديث عن سقوط صدام، عند الذكرى الاولى، وفي الثانية عشر، يتّحد القول: إن زواله كان ضرورة. بلغ العراقيون اختناقا ادى بالكثير منهم الى القبول بأي طريقة لسقوطه، حتى وان كانت قوات غازية. الدكتاتور بتلك الصيغة البشعة يجب أن يذهب، ولا خيارات اخرى للخلاص من جمهورية الخوف بعد فشل انتفاضة 1991.

الجديد هو أن الذكرى تمر وبعض الارض العراقية تحت سيطرة تنظيم ارهابي، جزء منه مرتبط بذلك النظام. ورغم استعادة العراق لتكريت قبيلها، وبالتزامن معها تبدأ عمليات في الانبار، ويجري حراك حول لاسترداد الموصل، الا أن جرح سقوط المدن بالطريقة التي حصلت في حزيران من العام الماضي، لا يزال موجعاً، محاطا بوجع فشل واقع محصن ومرضٍ يكون بديلاً صالحاً ومانعا للعودة نحو أي من أشكال الدكتاتورية.

ففي أكثر من محطة خلال السنوات الماضية أثبت الكثير من العراقيين أنهم نسوا المعاناة ليفكروا بدكتاتور آخر، تارة بمسمى "دكتاتور عادل" كما نظّر بعض المثقفين، وأخرى باسم دكتاتور علماني، للتخلص من نموذج الاسلام السياسي والطائفي الذي دفع العراق الى خيارات سيئة، وكان التفكير بأياد علاوي نموذجا، وثالثة، وهي الأكثر سعة وجماهيرية، دكتاتور "الأكثرية" مترجما لرغبة الكثير من الشيعة، والمالكي في دورته الثانية مثّل تلك التطلعات.

يأتي هذا الفشل؛ استعادة التفكير بالدكتاتور وعدم الاتعاظ من تجربة العقود العجاف التي غطت البلاد بالقمع والظلم والحروب، نتيجة منطقية لسلسلة من فشل السياسات على يد أمراء النهب والطوائف والحرب، كانت هناك رغبة عميقة بوضع كل هؤلاء تحت رحمة من هو أقوى، تارة العادل واخرى العلماني وثالثة الشيعي.

نكستا استعادة الحلم بمستبد قوي وسقوط ارض عراقية بيد جماعات ارهابية، تمثلان صورة اخفاقات وانهيارات رسمتها الجماعات التي تقاسمت مجلس الحكم، وما ألحق بها تالياً من أطراف جديدة استغلت قضية المشاركة السنية في الحكم لتكون هي الممثلة الحصرية للمشاركة. وما بين مجلس الحكم وما ألحق به، يجري احتكار الحكم، ووضع دعامات الديمومة عبر القانون وبغيره، لتتبادل القوى نفسها المراكز والنفوذ بالسيطرة على السياسة والمال والدين.

كان الاصرار على تشكيل حكومة عراقية، ثم إجراء انتخابات، فرصة للمحتكرين. هو بمثابة وضع يد للقوى الرئيسية الموجودة في العملية السياسية على هذه العملية، لأن البلاد، كأي بلاد اخرى تخرج من استبداد شمولي، لا تمتلك سوى قواها التقليدية، الدينية والقبلية، التي تكون الاقوى في فترات الفوضى. القوى التقليدية أمكن أن لا تنفرد لولا أنها اعطيت فرصة صناعة الارضية المناسبة لوجودها. الفوضى المستمرة محاطة بتنظيم شكلي لا يفي بمتطلبات بناء دولة ذات أسس حديثة، ارضية خصبة لها.

وكما أن الدكتاتورية لم تسقط مع زوال صدام، انما سقط نموذجها الأكثر بشاعة، فإن النوازع لن تزول مع منع المالكي من ولاية ثالثة، لأن المواجهة لم تنطلق من وعي بمخاطرها، بل استهدفت الحفاظ على توازنات المستبدين الصغار المتقاسمين للنفوذ والمحتكرين للقرار. لهذا هي معركة بين الدكتاتوريات الصغيرة ضد أي جهة أو فرد يريد ابتلاعها. وحين تفشل تلك التوازنات يكون الثمن هو وحدة العراق، في حين إن بقيت ناجحة، يكون الثمن هو استمرار خضوع العراقيين لحكم ثلة من الزعامات تتبادل الادوار بينها.

هذا ليس توازنا بين مكونات، كما قد يبدو في ظاهره، انما بين شخوص، جماعات محتكرة، تستخدم كل الادوات المشروعة وغير المشروعة لتبقى ممثلة عن مكوناتها، وهي في الحقيقة تمثل مخاوف المكونات، وليس المصالح والتطلعات. وعليه لن تسمح بالتغيير الذي يطفئ المخاوف، ما يفقدها القدرة على المناورة للبقاء طويلا.

ومن مصلحة اللاعب الاقليمي الاول، ايران، بقاء الوضع كما هو عليه، ارضا خصبا لبقاء الحكم المرتبط بها، وفي المقابل يلعب العرب ومعهم تركيا لتقويض هذا الحكم عبر الدفع بالعراق نحو هاوية التقسيم... لهذا ان وحدة العراق المحكوم شيعيا مصلحة ايرانية حالية، وتقسيمه مصلحة الدول السنية خلال الفترة الراهنة. وعلى هذا الاساس ان الخيارات التي تفرضها انظمة هذه البلدان، تدعم وضع الفوضى التي أنست العراقيين معاناتهم مع الدكتاتورية.

لكن، ورغم كل هذا الخراب والفوضى والنسيان، هناك نقطة مركزية لم نفكر بها حين سقط النظام، ويبدو أنها لا تزال غير حاضرة الا قليلا، هي ان ما جرى خلال 12 سنة، وما سيجري على المدى القريب وربما المتوسط، نتيجة طبيعية لعقود او قرون لم يسلط عليها الضوء، تلعب دورها في عمق هذا البلد ومجتمعاته. ان الالم اكبر من يطاق، فيحول دون ان نعي ان ما نحن فيه الثمن، المرحلة الانتقالية، المعبر... الذي يجب اجتيازه لبلد لم يكن بلدا موحدا مجتمعيا الا عندما يكون على رأسه دكتاتور، وحين يسقط، وكان يجب ان يسقط لان ثمنه قاس وعميق وطويل، فان التبعات ليست قليلة. وان عجز العراقيون عن وحدتهم الان، فلن يحققوها ابدا.
&