&
يوم الجمعة ،الموافق ل22 يناير( كانون الثاني) 2016، اشتريت من بائع كتب عجوز في شارع باريس بتونس العاصمة كتابا قديما صدر ضمن سلسلة "المكتبة المثالية"عن دار "غاليمار" في باريس عام 1958.وكنت أنوي الشروع في قراءته حال عودتي إلى بيتي في الحمامات غير أن قلقي وانشغالي بما يجري في تونس من أحداث خطيرة ،جعلني أؤجل قراءته ،فلم أفتحه إلا صباح اول من امس ( الثلاثاء) وفي بضع ساعات أتيت على الجزء ألأكبر والاهم منه واجدا متعة لا تتوفر لي إلّا مع الكتب النادرة والرائعة ،الحاملة لأفكار تثري الخيال والفكر،فاتحة آفاقا واسعة ،مخفّفة عن النفس ما يأتي من الخارج لينغص الحياة،ويبسط عليها القتامة والحزن واليأس. ويحتوي الكتاب على مختصر لسيرة الناقد والكاتب الفرنسي المرموق بول ليوتو الذي ولد عام 1872 وتوفي عام 1956،وعلى مقتطفات من نصوص نقدية حول مسيرته،ومواقفه وأعماله،وفقرات مطوّلة من كتاباته النقدية ، ومن يومياته الشهيرة التي دأب على كتابتها منذ سنوات الشباب ألاولى،وظل مواظبا عليها حتى اللحظة الاخيرة من حياته المديدة لتكون مرجعا أساسيا وثمينا للأدب الفرنسي وللثقافة الفرنسية في نهايات القرن التاسع عشر والنصف الاول من القرن العشرين.
وبول ليوتو من الكتاب الفرنسيين النادرين. وكان مهاب الجانب،ومسموع الكلمة من قبل كبار المبدعين في النثر كما في الشعر.وكان يضع مالارمي فوق جميع شعراء فرنسا، أي فوق بودلير وفرلين ورامبو وهوغو!وكان على علاقة وطيدة ببول فاليري الذي تعرف عليه أيام كان هذا الأخير &يتردّد على مجالس يوم الثلاثاء التي تنتظم في بيت مالارمي.وعندما توفي صاحب "السيد تاست" في العشرين من يوليو(تموز) 1945،بكاه بول ليوتو بدمع سخين. لكن لحظة دفنه أخرج من جيب سترته قطعة خبز وراح يلوكها غير عابئ بخشوع الحاضرين!
ورغم شغفه بالنساء،وحبه لهن،رفض بول ليوتو الزواج لأنه بحسب رأيه "يقتل حرية الإنسان"،ويجعله عبدا لعادات الحياة اليومية ،ورتابتها ،وثقلها.وكان يقول بإنّ الحبّ الحقيقي ،والكامل ،والوحيديكمن في اللذة الجنسية ،وفي الأحاسيس &التي تتولّد عنها.وهو أيضا الحب المرح،والمتحرر من القيود،ذاك الذي يسمح للإنسان بأن يطلق العنان لرغابته المحرمة والمكبوتة.
ناسيا أنه كان طفلا ذات يوم، لم يكن بول ليوتو يحب الأطفال .وكان ينفر من الإقتراب منهم،ويمتعض من العائلات التي تبالغ في تدليلهم،والإعتناء بهم.وحدها الحيوانات الاليفة كانت تستثير عطفه وحبه .لذا كان يستهويه تربية عدد كبير من القطط،وليس قطّا واحدا كما كان حال لوي فارديناند سيلين .وحتى اللحظة الاخيرة من حياته،عاش زاهدا في الحياة فلم يكن يجد سعادته إلا في القراءة وفي الكتابة معتبرا أن أي شيء نرغب في آمتلاكه يتحول الى قيد يمنع الإنسان من التمتع بحريته.مرة كتب يقول:”السعادة هي ربما أن يكون للإنسان مال،وحقيبة بها خمسة أو ستة كتب، وثيابه،وأن يعيش مرة هنا،ومرة هناك ،مرتبطا دائما ببشر آخرين ،ومتعرفا على مشاهد طبيعية ،وعلى أفكار مغايرة من دون أي تقيّد أو تعلق ،وأن يسجل ملاحظاته حول كلّ شيء"..وكانوا على حقّ أولئك الذين كانوا يعتبرون ليوتو من أكثر الكتاب حرية في زمنه إذ أنه لم يكن يخشى المجاهرة بأفكاره حتى ولو كانت في تناقض مطلق مع ألأفكار السائدة.وكان يقول:”ليس على الإنسان أن يخشى أفكاره،ولا ان يخشى التعبير عنها حتى ولو كانت مضادة للأفكار المسلّم بها،وخصوصا إذا ماكانت مضادة للأفكار المسلم بها!”.والحرية بالنسبة له ليست ضرورية في الحياة وحدها ،بل في الكتابة أيضا.لذا كان يوصي الكتاب بألاّ يهتموا بما يفعله آلآخرون ،بل عليهم أن يكتبوا كما يحلو لهم فلكأنّ كل واحد يكتب لنفسه فقط لا غير.
ولم يكن &ليوتو يحب ما يسميه البعض ب"الأدب &الكبير"،ولم تكن الروايات تستهويه.فهو يخير على كلّ هذا الرسائل التي يكتبها ألأدباء،والمذكرات واليوميات ،والمحاورات كما عند الإغريق القدماء،تلك التي برع في كتابتها أفلاطون تحديدا.&وفي سنوات شبابه عشق ستاندال،وظل متعلقا به حتى النهاية،وعنه كتب أجمل الصفحات.فهو بالنسبة له مثال ل"الذكاء،والحساسية ،والملاحظة الدقيقة،والتحليل الأدبي &في أرفع مستوياته وأسماها". وهو "العقل الجبّار،والروح الحرة،والشهوانية ،المحبة للملذّات"،ولا وطن له غير "وطن القلب والفكر".وعندما يضجر من ركام "الأدب الجديد"،ومن الكتب التي أفزرتها فواجع الحروب ،كان &ليوتو يفضّل أن يغلق على نفسه باب بيته ليغرق في قراءة عمل من أعمال ستاندال فينسيه ذلك صخب الخارج،وتفاهات المجتمع ،ورداءة الكتاب الباحثين عن الشهرة بأيّ ثمن.وهو يرى أن ميزة ستاندال تمكن أساسا في أنه عاش الحياة بعمق ،واختبرها قبل أن يشرع في الكتابة.لذا تحفل كتاباته بحضور ذاته.فكما لو أن متعة الكتابة عنده هي أن يعيش من جديد لحظات من حياته بواسطة اللغة والكلمات التي كان يبدع في تخيّرها،وابتكارها،متجنبا البلاغة الركيكة،والإطالة والإسهال ،والتذمر والبكائيات كما هو حال الرومنطيقيين الذي "أفسدوا اللغة،ولوّثوا الأدب،ووشوهوه،وبلّدوا الفكر".
وكان ليوتو يمقت السياسة وأهلها،خصوصا الراديكاليبين منهم.وعن هؤلاء كان يقول:”الراديكاليّون لم يفعلوا أي شيء أبدا.وهم لن يفعلوا غير النوم وانتهاز الفرص”.وعندما كان الفرنسيّون يحتفلون بنهاية احتلال الجيش الألماني لبلادهم ،وانهيار النازية في عام 1945،عبر عن تذمره من "الضجيج "،ومن "الزعيق" حتى أن البعض من المبالغين في شوفينيتهم اتهمه ب"العمالة" للعدو المهزوم.
ورغم هزال بنيته الجسدية ،وتكالب ألأمراض عليه منذ الطفولة،عاش ليوتو حياة مديدة(84 سنة).و بعد مرور بضعة أيام على عيد ميلاده التاسع والخمسين ،كتب يقول:"ولادة سيئة ،عائلة سيّئة،طفولة سيّئة،دراسة سيّئة،فترات شباب سيّئة،مهن سيّئة،طعام سيّئ،ثياب سيّئة،سكن سيّئ،مكتب سيّئ،علاقات سيّئة،عاشق سيّئ،صحّة سيّئة،ثروة سيّئة،موهبة سيّئة،نجاح سيّئ،سمعة سيّئة،سلوك سيّئ،أخلاق سيّئة،شيخوخة سيّئة...أعتقد أني رسمت اليوم 23 مارس 1931،وقد بلغت من العمر تسعا وخمسين عاما ،وشهرين وخمسة أيام، صورة كاملة لنفسي.على أمل أن تتحسّن أوضاعي... “.&
&