لا يختلف إثنان على أن كلام وزير النقل العراقي خلال إفتتاحه لمطار الناصرية، هو حديث عبثي في توقيته ومكانه، ولا علاقة له من قريب أو بعيد بحدث اللحظة التي تكلم فيها الوزير. لكن بالمقابل فإن ردود الأفعال من قبل النخب المثقفة وعوام المجتمع العراقي لم تكن بأقل عبثية في تعليقاتها من كلام الوزير.

مشكلة هذا الوزير المسكين هي أنه كمن سكب جردل ماء بارد على نفسه، وعلى أناس ينامون بالعراء في عز الشتاء! مشكلته أنه يريد أن يذكر أجيالنا بأن رمزها هو الملك السومري إيتانا، في الوقت الذي بات فيه رمزها السيستاني والقرضاوي! مشكلته أنه خاطب شعباً يفكر بعقلية القرون الوسطى والعصور الحجرية، بنظريات ما تزال قيد الدراسة والبحث، رغم بعض ما يدعمها من أدلة! مشكلته أنه أثار موضوعاً يتعلق بأفكار جعلها حكام العراق الجدد واتباعهم محرمات، لأنها تتغنى بحضارة إنسانية عريقة لا يريدوننا أن نستلهم عظمتها لنرتقي ونتطور، بل أن نبقى حبيسين تأريخ إشكالي عمره ١٤٠٠ سنة، لنجتر تداعيات ثأر واقعة الطف وصراع سلطة السقيفة، وأن نبقى نتقاتل من أجله حتى ننقرض! مشكلته أنه تحدث بموضوع تتناوله حلقات النقاش والموتمرات البحثية بأرقى الجامعات العالمية، في بلد تقيم جامعاته مجالس عزاء، وتمتح شهادات عليا بكرامات الأولياء! مشكلته أنه تحدث بما كنا نتحدث به ونقرأه في روايات ه. ج. ويلز، ونشاهده بمسلسل ستارترك، ونناقشه بيننا في الثمانينات بمراكز الرعاية العلمية التي كانت تجمع الشباب العراقي وتوسع مداركه، وأعاد سرده بشكل ساذج في القرن الواحد والعشرين، الذي بات إهتمام العراقيين فيه منصباً على إحياء مراسم العزاء، والتغني بفضائل الخلفاء، والتسابق للذهاب الى الحج، والتنافس على الالتحاق بداعش والحشد،وتبادل تهاني الجمع المباركة! مشكلته أنه وقع بين مطرقة يمثلها عوام ومثقفون، ومنهم مؤرخون، إستفز كلامه عقولهم الكلاسيكية، فهاجمته، وبين سندان عقليته التكنوقراطية الأكاديمية اللا إدارية ومن يحيطون به ممن نصحوه ربما بالكلام في هذا الموضوع!

العبثية الأكبر في رد الفعل على كلام الوزير كانت من قبل بعض النخب التي تصف نفسها بالـ (بحثية) أكثر من العوام، وهذا الأمر يذكرنا بمسألة أن كل شخص يستطيع أن يدرس، لكن ليس كل شخص يمكن أن يكون باحثاً، لأن الباحث الحقيقي يفترض أن يكون واعياً أولاً ومشككاً ثانياً، ليصل ببحثه الى نتائج منطقية وجديدة. لذا ليس مشككاً من يصدق ويعتقد ويتقبل بشكل مطلق فكرة أننا وجدنا على الأرض بفضل آدم وحواء، اللذان طردا من جنة في السماء، لأنهم تناولوا تفاحة حمراء، بعد أن خدعهم إبليس، الذي كان متنكراً بهيئة أفعى! وليس واعياً من يعتبر الحضارة السومرية حضارة بسيطة من طين وقصب، أو من يُرَوّج ويِنظِّر لفكرة أن مرتزقة وقفاصة وعصابچية مليشيات الحشد هم أحفاد سومر، لأنهم إستعملوا المِسحاة كمِقلاة للبيض!

بالتالي فإن أمثال هؤلاء، حتى وإن إمتلكوا صفة الباحث، ليسوا مؤهلين بكل تأكيد لأن ينتقدوا وينصحوا من يصدق ويعتقد أو يتقبل فكرة ان السومريين جائوا من الفضاء، أو كان لديهم إتصال ورحلات فضائية مع كائنات من كواكب أخرى. فالخيال العلمي المدعوم بشيء من العلم والمنطق، والذي يقف ورائه باحثون وعلماء، هو بكل الأحوال أفضل من العُقد الطائفية والمناطقية، أو من الأساطير والروايات التأريخية، التي لا يدعمها عقل ولا منطق، ولا يقف ورائها سوى سدَنة الأوهام والخرافات.

وختاماً لا بد من القول أنه إذا كان لسخرية بعض العراقيين من كلام الحمامي عن المطارات السومرية من مبرر، رغم ما تبطن من قلـة علم بحيثيات ما تحدث به، لأنه طرحه بشكل غبي ساذج. فإن سخريتهم التي تبطن جهلهـم بالذكرى الـ 84 لتأسيس وطنهم رسمياً في 3 أكتوبر 1932، والذي يصادف دخوله لعصبة الأمم وإعترافهـا به رسمياً، هو سبة لهم ووصمة عار على جباههم التي تعودت الذل والعبودية.

هؤلاء العراقيين، وهم كثر، لا تهمهم مطارات السومريين حتى وإن ثبت وجودها علمياً، لأن فكرتها تحفز عقولهم وتنقلهم الى المستقبل، ولأنهم أعداء العلم وأصدقاء الجهل، وما يهمهم فعلاً هو أفكار تغيب عقولهم وتعيدهم الى الماضي، كتعبيد شارع لركضة طويريج، أو بناء مسجد ضرار ليستمعوا فيه الى خطبة أحد شيوخ الظلام.

وهؤلاء العراقيين، وهم كثر، لا تهمهم دولـة المواطنة المدنية الليبرالية الحديثة التي بناهـا فيصل بحكمته وبسواعد المخلصين من أتباعه قبل قرن من الزمن، لأنها تجعل منهم مواطنين محترمين لبلد محترم هم لا يعترفون به أصلاً، ولأنهم تعودوا أن يكونوا عبيداً وقطيعاً يسير خلف راعٍ، وما يهمهم فعلاً هو فتح العالم الذي يصوره لهم عقلهم المختل ضالاً لينشروا ويقيموا فيه دولة خلافة أبو بكر البغدادي الإسلامية، أو دعم جمهورية الخامنئي الإسلامية التي يوهِمهم عقلهم المتخلف أنها مُمهِدة لدولة المهدي الحُجة الذي سيظهر لهم مستقبلاً من العدم ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئت ظلماً وجوراً!

الخلاصة هي ان العراقيين إستبدلوا الخيال الذي تثيره حضارة السومريين بخرافة تفاحة آدم، وإستبدلوا الدولة المدنية المتحضرة التي أسسها لهم فيصل بإمارات الطوائف الحشدوية والداعشية الهمجية المتخلفة.

&

[email protected]