&
&
&
التظاهرات والاعتصامات، التيار المدني والتيار الصدري، في جهة، والكتل السياسية في الجهة الأخرى، والمرجعية والعبادي والتكنوقراط ، وماذا بعد؟
&
&
يمر العراق اليوم بانعطافة خطيرة ، بل ربما هي الأخطر في تاريخه الحديث لأنه على أعتاب تقسيم شبه حتمي على أسس طائفية ومذهبية وعرقية، وعلى أبواب حرب أهلية دامية قد تأكل الأخضر واليابس. وهذه ليست رؤية تشاؤمية بل هي تشخيص واقعي لما يدور في الخفاء في كواليس السياسة والمشهد السياسي العراقي المتوتر والمتأجج. هناك لاعبون كبار وهناك شخصيات مؤثرة تعمل في الخفاء لحساب الحيتان الكبيرة، وهناك رعاع مهمتهم تنفيذ الأوامر التي تأتيهم من قادتهم بلا نقاش ولا تفكير ولا تردد لأنهم كقطيع الغنم يوجههم الراعي ، الزعيم الحزبي أو الديني، كيفما يشاء، وهؤلاء هم الذين يخلقون جلاديهم ويعبدون أو يؤلهون قادتهم حتى لو كانوا من طينة الأبالسة. وعند التمعن في المشهد السياسي العراقي والتأمل بعمق بما يحدث من خلال التصرفات والتحركات والتصريحات سيصل إلى قناعة راسخة لا تقبل الجدل وهي أن الدولة العراقية مستقيلة وغائبة وهي ليست أكثر من واجهة رسمية موجودة في المحافل الدولية من خلال بعثاتها الدبلوماسية البائسة ومؤسساتها شبه الغائبة أو التي تغط في سبات عميق. العراق دولة فيها علم ودستور وقوانين ومؤسسات لكنها شكلية وغير فاعلة وفاقدة للسلطة التي تتمركز بيد حفنة من أمراء الحرب وزعماء الميليشيات المسلحة، السنية والشيعية والكردية، ورؤساء الكتل السياسية المهيمنة على المشهد السياسي من خلال سياسة المحاصصة وتقاسم المغانم ولكن ليس على نحو عادل ومقبول من قبل باقي المكونات، فالجميع يشكو وينتقد ويندد ويفضح ويهدد ويظهر بمظهر المظلوم المسلوب الإرادة والضحية لجشع الآخرين. فالوزارات والمناصب التي يتقاسمونها فيما بينهم هي بمثابة البقرة الحلوب التي توفر لهم المال والجاه والسلطة ومرتع للفساد والرشوة، والقتل البطيء للمواطن العراقي وسلبه لأبسط احتياجاته وجعله تابعاً ذليلاً لهؤلاء الأوباش. وبالتالي نرى أن المواطنة ماتت ودفنت وتحول المواطن إلى رقم خاضع للتلاعب، مما خلق حالة من النفاق والتملق الجمعي تبعاً لغريزة البقاء على قيد الحياة كما نشاهد في أفلام هوليود عندما يذعن مجتمع كامل لقانون الغاب وسيطرة الجريمة المنظمة على الشارع والخوف من السلطة المافيوية، لكنها في العراق تحدث على مستوى وطن بأكمله وشعب يصل تعداده إلى ثلاثين مليون ضحية. ليس بوسع أحد الاحتجاج، ناهيك عن التحدي والرفض أو المقاومة، لأن مصيره هو القتل والتصفية الجسدية. فالسرقات والعمولات أو القومسيونات بملايين الدولارات تتم على عينك يا تاجر وأمام مرأى ومسمع الجميع بلا رادع ولا خوف من قانون أو سلطة قضائية أو محاسبة قانونية، فالكل يسرق ويرتشي حتى صار هذا الأمر هو القاعدة وليس الاستثناء كما في باقي المجتمعات. وبعد هذا التشخيص ألسريري لبلد يغط في غيبوبة، لابد من محاولة للفهم من أجل الخروج من المأزق، فلقد دمر البلد وانهار اقتصاده ونهبت خيراته وثرواته والجميع يدعي البراءة. هناك أيادي دولية وإقليمية وداخلية تعبث بمصير البلد وتوجهه بالاتجاه الذي ترتأيه وهي متصارعة ومتناقضة فيما بينها والضحية الوحيدة لهذا الاقتتال والصراع الخارجي على الساحة العراقية هو الشعب والوطن. فلم يعد خافياً ما خططته أمريكا للعراق منذ عقود طويلة ومعها تابعها الأوروبي الذليل، وما تزال أذرعها الأخطبوطية تلتف حول عنق العراق لتخنقه إلى الأبد، وهناك التدخلات الإقليمية السافرة في الشأن العراقي الداخلي بالمال والسلاح وتجنيد الأذناب من قبل دول الجوار كافة بدون استثناء. والأدهى من كل ذلك، الخلل الناجم عن غياب السلطة المركزية وتفاقم المواجهات وتباين موازين القوى المحلية والداخلية بين كافة مكونات المجتمع العراقي. فهناك خطر داعش الجاثم والمهدد لكيان الدولة برمته لذلك يحظى بالأولوية اليوم لمواجهته واستئصاله وإخراجه من العراق ولكن بأي ثمن وعلى يد من؟ حيث لا بد أن نعرف أن لمثل هذا الحدث، لو تم، استحقاقات خطيرة، للحشد الشعبي وللعشائر وللأكراد ولكل الذين شاركوا في عمليات طرد داعش من الأراضي العراقي بما فيهم التحالف الدولي الذي لا يقوم بذلك مجاناً ولسواد عيون العراقيين بالتأكيد. وهناك الحراك الجماهيري والغضب الشعبي الذي تجسد من خلال التظاهرات والاعتصامات على مدى شهور عديدة وأتخذ مؤخراً طابع التهديد والوعيد في قلب المعادلة السياسية العراقية على عقب وإنهاء العملية السياسية برمتها حتى لو كان ذلك بأسلوب القوة والاقتحام لعرين السلطة في المنطقة الخضراء لا سيما بعد دخول التيار الصدري على خط المواجهة والاحتجاجات وتجييرها لصالحه علما إنه طرف أساسي مشارك في السلطة وشبكات الفساد فيها وهو من المستفيدين منها ومن نظام المحاصصة بكل تأكيد. الكل ينادي بالإصلاحات ومحاربة الفساد وحكومة التكنوقراط، فمن هو الفاسد ومن هو المصلح وماذا يعني التكنوقراط في نظر المواطن؟ ألا يوجد لدى الأحزاب والكتل السياسية المتحكمة بالسلطة في العراق متخصصون وتكنوقراط لكنهم تابعون لأحزابهم وكتلهم السياسية؟ وما هي سلطة التكنوقراط إذا ما تم اختيارهم من قبل الكتل والتيارات والأحزاب السياسية نفسها كما يحدث الآن؟ ولنا في قائمة السيد مقتدى الصدر، وقائمة السيد العبادي، وغيرها من القوائم التي لم تقدم بعد ، خير مثال على ذلك؟ وماذا لو عارضت إيران مسخرة الإصلاحات الدائرة على كل لسان اليوم؟ وما هو رأي لاعب أساسي في العملية السياسية ومنشغل الآن بمحاربة داعش كالسيد هادي العامري رئيس منظمة بدر؟ وماذا سيكون موقف مقتدى الصدر لو لم يأخذ أحد بإملاءاته ومرشحيه التكنوقراط؟ وما هو موقف دولة القانون وحزب الدعوة بكل أجنحته من هذه التحركات التي قد تطيح بسلطته؟ وكذلك ما هو موقف المجلس الأعلى وأتباع السيد عمار الحكيم وهم يعلنون دعمهم للإصلاحات ولكن بشرط أن تكون شاملة وتطال رأس السلطة التنفيذية ، أي الدكتور حيدر العبادي نفسه لأنه محسوب على حزب الدعوة ودولة القانون؟ والأخطر هو موقف الأكراد الذين لا يريدون التنازل عن أي شيء من حقوقهم وحصتهم في الدولة العراقية سياسياً واقتصادياً وبالتالي يهددون بسحب الثقة من حكومة العبادي الحالية والقادمة إذا لم تنفذ مطالبهم؟ كل هؤلاء مستفيدين من هذه الأوضاع وهذه السياسات وهذان النظام الغريب والعجيب الذي لا يوجد له مثيل في العالم كله. يبدو أن ذاكرة العراقيين قصيرة وينسون بسرعة. فهذه المسرحية السياسية الساخرة تجري منذ ثلاثة عشر عاماً. منذ طريقة اختيار وتعيين رئيس مجلس الوزراء العراقي للمرحلة الانتقالية وهو الدكتور اياد علاوي التي حضرت بنفسي كافة فصولها الهزيلة وما جرى في كواليسها آنذاك بوجود الأمريكيين وسلطة الاحتلال. ومن ثم مهزلة اختيار إبراهيم الجعفري وتداعياتها منذ العشرين من أيار (مايو) عام 2006 عندما بدأت الضغوط تتوالى عليه داخلياً ومن كل المكونات لإجباره على التنحى بعد معارضة سياسية قوية، من قبل شركائه في التحالف الشيعي والأكراد والسنة على السواء، وقد تعرضت حكومته للكثير من العقبات التي نصبت له عمداً لإفشالها، وحاولت بعض الأطراف السياسية العراقية التكتل والتحالف فيما بينها رغم تناقضاتها، من أجل إسقاط حكومته، كما وشاركت إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش بحسب السفير الأميركي السابق في العراق زلماي خليل زاد، في مقابلة مع صحيفة (الوول ستريت جورنال) الأميركية، في هذه العملية الإنقلابية على الشرعية الدستورية وخرق اللعبة الديمقراطية الهشة التي جلبها الأمريكيون للعراق . فخلفه السيد نوري المالكي حيث شغل ولايتين متتاليتين، ولم يتخل عن الثالثة، إلا بالقوة والتهديد ، وخلفه الدكتور حيدر العبادي، بنفس الطريقة المخجلة، بعد خيانة بعض المقربين من سلفه، بعد أن رفض الدكتور طارق نجم ، مدير مكتب المالكي، التكليف رفضاً قاطعاً. في موقف يُعد الأول من نوعه في مسار العملية السياسية، وقد كانت الضغوط عليه شديدة متصاعدة لإقناعه بقبول التكليف، لكنه أصر على رفضه، وقاطع تلقي الاتصالات الهاتفية من شخصيات لها مكانتها الدولية من ضمنهم الرئيس الأميركي باراك أوباما ونائبه جو بايدن، ليس تقشفاً أو زهداً بالسلطة وإنما ليقينه من الفشل الحتمي الذي ينتظره وهو الذي شهد بنفسه طبيعة التآمر والمكائد التي نصبت لأسلافه علاوي والجعفري والمالكي. تنحى رئيس وزراء السابق نوري المالكي عن ولايته، ، ولم تشفع له أصواته الانتخابية الكثيرة، حوالي الــ 700 ألف ممن انتخبوه، فالتحالفات الشيعية تركته وحيدا، ليمهد الطريق أمام حيدر العبادي بدعم من شخصيات مؤثرة في حزب الدعوة كإبراهيم الجعفري وعلي الأديب ووليد الحلي وغيرهم، ومباركة المجلس الأعلى والتيار الصدري والأكراد بالطبع، وحدث انقلاب القصر الأبيض .ولكن أين الشعب من كل ذلك؟ لاشيء فهو مجرد أصوات انتخابية استهلكت ونسي أمره ورمي إلى زاوية النسيان لا حول له ولا قوة. لم يبق أحد في العالم لم يشد بخطوة تنحي المالكي التاريخية عن السلطة والترحيب بتكليف حيدر العبادي للخروج من المأزق الخطير الذي كان يمر به العراق في ذلك الوقت، الأمم المتحدة والولايات المتحدة وأوروبا وروسيا والصين وفيما بعد إيران نفسها ودول الخليج الخ .. فأمريكا اعتبرت ما حدث بمثابة خطوة كبيرة وجريئة نحو توحيد العراق من جديد على حد تعبير سوزان رايس مستشارة الأمن القومي للرئيس الأمريكي، ونفس النغمة رددتها وزير خارجية الاتحاد الأوروبي كاترين آشتون التي قالت إن اختيار العبادي خطوة ستساهم في الاستقرار السياسي للعراق. كما أعربت المرجعية الدينية عن رأيها معتبرة ما حدث بأنه فرصة نادرة لحل المشاكل السياسية والأمنية للعراق كما قال السيد الصافي ممثل المرجعية الذي دعا كافة النواب والكتل السياسية المشاركة في السلطة أن تكون على مستوى مسؤولياتها التاريخية وأن يتعاونوا مع رئيس الوزراء الجديد في تشكيل حكومة قوية تتميز بالكفاءة والجدية. فما عدا مما بدا؟ لقد انتهى شهر العسل السياسي للسيد العبادي بسرعة ، وتبخر الاحتفاء المبالغ به والمشوب بكثير من النفاق والتملق والكذب والدجل واعتباره المنقذ المخلص للعراق من دوامة القتل والنهب والفساد التي كادت أن تحوله إلى دولة فاشلة. السيد العبادي لم يكن متوهماً ولا غبياً وهو يعرف نفسه جيداً ويعرف حدوده وإمكانياته، كما ويعرف الواقع العراقي ومتاهاته ومؤامراته لأنه جزء منها وإنه وضع في موضع لا يحسد عليه إلا أنها مغريات السلطة والجاه والمال التي لا تقاوم، لذلك صرح في ذلك الوقت، لحظة التكليف والنطق باليمين الدستوري أن الطريق لن يكون سهلاً ولن يكون معبداً بالزهور بل أمامه مشاكل لا حل لها، ولا يتعلق الأمر بحسن النوايا أو بالقدرة والكفاءة والإخلاص والنزاهة، ولن يمتلك عصا سحرية، لحل وإنهاء كافة المشاكل العويصة بضربة عصا كما قال . والسيد العبادي على علم بكل ملفات الفساد التي أهدرت عشرات المليارات من أموال الشعب وحرمته من أبسط وسائل العيش الكريمة وابسط الخدمات التي يحتاجها الإنسان في حياته اليومية كالكهرباء والماء الصالح للشرب والصحة والنقل ومصادر الدخل الطبيعية. وهاهي مهزلة التصعيد والتحريض والتحشيد تشحذ مرة أخرى وبدأ الخناق السياسي على العبادي يضيق يوما بعد آخر لإطاحته واستبداله بغيره للضحك على ذقون الناس واستغفال الشعب والتحايل عليه بالكلام والمصطلحات الجديدة كالتكنوقراط في حين أن جميع الكتل السياسية تتمسك في الحقيقة بالمحاصصة وتقاسم المناصب والنفوذ والأموال بعيداً عن أية رقابة أو مسائلة، وبعيداً عن عيون الشعب الذي قد ينفجر بين ليلة وضحاها ويحصل ما لا يحمد عقباه وينزلق البلد نحو الهاوية ويتحول العراق إلى دولة فاشلة، فعلى الشعب أن يعي خطورة الموقف قبل فوات الأوان. لابد أولاً إنهاء العمليات الحربية ودحر داعش الإرهابية وإخراجها من العراق وإبعاد خطرها كلياً ، ومن ثم تشكيل حكومة انتقالية مستقلة تماماً عن الأحزاب والكتل السياسية بإشراف الأمم المتحدة لتمشية أمور الدولة لغاية تنظيم انتخابات برلمانية أو رئاسية بالاقتراع الحر السري المباشر من قبل الشعب وتحت إشراف ورقابة الأمم المتحدة والمنظمات الدولية ذات الاختصاص، بعد تعديل قانون الانتخاب الحالي، وذلك لضمان نزاهة وشرعية النتائج، حيث يترتب على الحكومة المنتخبة الجديدة أن تقوم بتعديلات دستورية جوهرية وسن قوانين جديدة بعيدة عن المحاصصة الحزبية، وفرض هيبة الدولة والرقابة المشددة على كافة النشاطات الاقتصادية والتجارية الحكومية والخاصة لمحاربة الفساد واستعادة الأموال المنهوبة والبدء بعملية إعادة بناء الدولة ومؤسساتها الدستورية على أسس علمية صحيحة. فهل ستتقبل مافيات الفساد والسياسة المختطفة لهذا البلد هذا الحل أم ستقاومه وتجهضه ولو بالحديد والنار وقوة السلاح؟ يبدو أن الأزمة السياسية في العراق مرشحة للمزيد من التوتر حيث لا مؤشرات على انفراجها. ولن يكون هناك انفراج. وبالتالي سيكون هذا هو المصير المجهول الذي سيواجهه العراق اليوم وغداً.
&
&
التعليقات