في زحمة المترو اثناء عودتي من العمل، كنت اجلس بجانب رجل في منتصف العمر يقرأ كتاباً في الفلسفة وفي مقابلي كان هناك كرسي فارغ، يجاوره شاب مشغول غارق بسماع شيء من هاتفه، ربما موسيقى. في إحدى المحطات، فتح الباب، دخل زوجان، المرأة محجبة، سارع الزوج بالجلوس في الكرسي الفارغ وظلت هي واقفة. استغربت موقف أن يجلس الرجل ويدع زوجته واقفة، لم أفكر بالأمر كثيراً، فتحرك المترو كعادته بسرعة وبما ان السيدة المحجبة كانت تقف امام كرسي زوجها ولا تتمسك بشيء، وقعت مع السرعة المفاجئة على الارض سارع نحوها ثلاثة من الشبان يقفون بجانبها وحاولوا مساعدتها للوقوف لكنها منعتهم وتوقفت بدون مساعدة وهي محرجة وزوجها يتفرج وبدا على وجهه الانزعاج من الشباب ومحاولة مساعدتهم لزوجته. هنا، بدأت أنظر الى الاثنين، أدقق بحركتهم، تعابيرهم، وتبادلهم للنظرات التي تشي بالكثير من الحديث الديني والاجتماعي. اقارن أيضا انشغال الكل بقراءة كتابة أو سماع موسيقى، وانشغال الزوج الخائف بزوجته. قبل الوصول الى محطة وقوف أخرى، قام أحد الجالسين إليها وعرض بأن تأخذ كرسيه وتجلس كي لا تقع مرة اخرى لكنها ايضاً رفضت المساعدة مجدداً، وعيون الزوج تلاحقها، وتلاحق كل رجل يحاول المساعدة أو يقدم على أي خطوة حولها، حتى شغرت إحدى المقاعد، ركضت لتجلس، انتبهت الى أن مجاورها سيدة كانت تقرأ.
بهذا عرفت القصة كاملة، واستوعبت المشهد وخلفياته والنظرات بين الزوجين. الزوج انزعج من محاولة مساعدة الشباب لزوجته كي لا يتقربوا من جسدها و لم يعطها كرسيه لانه بجانب رجل ولن تقبل هي الجلوس عندما عرض عليها الكرسي لانها بجانب رجل بينما ركضت لتجلس جانب سيدة. رغم أنها حالة من عشرات المفارقات والغرائب التي نشاهدها بشكل دوري، إلا أنها أكثر غرابة حتى من قصص الانتحار وأكثر تعقيداً مما يمكن لانسان غربي أن يفهمه. التعقيد، أن بساطة مساعدة الانسان للانسان، وحياته اليومية المبنية على الاحتكاك الاعتيادي بين الرجل والمرأة، لا يشبه حذر هذه المرأة ونظرات الزوج. عليها أن تتحاشى أي ملامسة، وكأن الرجال كهرباء قاتلة. هذا الحرص الذكوري يفترض أن يقوم هو بمساعدتها، لا يتركها تقع، بل يمسكها، فالذكورة التي نسمع عنها تفترض أن تكون محمية، لكن في هذه الحالة غير محمية وغير مسموح لأي آخر من بني نوعها البشري مساعدتها.
العقلية الدينية المتزاوجة بعادات المجتمع، تلعب دوراً كبيراً بحيث ترى المرأة الرجال كالبعبع لا يمكن حتى الجلوس بجانبهم وهذا طبعاً بقرار من الزوج ايضاً لكن لا مانع للزوج ان يجلس بجانب امرأة او حتى ان يقبل مساعدتها. وهذا يؤدي الى أن تنظر المرأة الى الطرف الآخر دائما حالة جنسية، تجعل لمساته دائما غير بريئة في احساسها حتى لو كان بريئا من جهته.
هذه الحالة تمثل صورة مزرية عن واقع واسع النطاق آخذ بالاتساع عربياً، بعد ان تمكن العقل الديني من السيطرة على الثورات، واصبح حجب المرأة عن الرجل هو السائد، ويحاصرها بعدة من الفتاوى والمحرمات والعادات، ويفقدها انسانيتها، ويجعل منها عورة.
التعليقات