&
المطالبة بالديمقراطية اللغوية
سبق لنا في القسم الأول وسلطنا الضوء على مفهوم اللغة ومدى فاعلية التعدد اللغوي بثنائي وثلاثي اللغة إلى جانب دورها في التأهيل المعرفي والثقافي.&
ومما تجدر الإشارة اليه هنا عن ديمقرطية اللغة بأن تجارب شعوب العالم أثبتت سياسة الصراع اللغوي في الدول الملتزمة في دساتيرها بوحدانية اللغة كلغة رسمية، بحيث أيقظت مشاعر وأحاسيس ومدارك الشعوب للمطالبة بالديمقراطية اللغوية كحق من حقوق الوجود القومي، وأكبر دليل على ذلك تكوين الدول بحكم لغاتها بعد نتائج الحربين العالميتين وخاصة في الدول الأوربية، تخلصاً من هيمنة الدول المُسيطرة على إدارة دفة الأمور لعوامل سياسية توسعية، فتم استقلالها بسلاح القوة اللغوية. والعامل الآخر الأكثر أهمية في المجموعات المنضوية تحت مفهوم التكوين الإثني وذات التجانس البشري المتواجدة في إطار الدول التي تتغافل عن لغاتها رغم ثنائية لغتهم أي اللغة الرسمية ولغة ما يسمى بالأقليات المتمتعة بعاداتها وتقاليدها وتراثها القومي. وبما أن هذه الحالة أدت بالكثير من تلك المجاميع للمطالبة بحقوقها اللغوية فقد انتشرت أوضاع الشغب وراح ضحيتها ما لا يحصى من النفوس البشرية في العديد من الدول ومنها على سبيل المثال التي تم الإعتراف بثلاثين لغة رسمية من مجموع ما يزيد عن المائة لغة في الهند. ولتعدد اللهجات اللغوية في بنغلادش وإعتماد لغة أقلية أثنية احتج وتظاهر الطلاب على ذلك بحيث كان مُؤدى التظاهر مقتل العدد منهم يوم 21 شباط 1952 ليتم فيما بعد تدوينه بتسمية " عيد شهداء اللغة " ومن ثم على أثر ذلك صدر قرار اليونسكو تيمناً بذلك اليوم على جعله " اليوم العالمي للغة الأم ". منذ عام 1999 ليحتفل به في مطلع العام التالي وفي كل عام للحفاظ على الهوية الثقافية والوطنية لكافة شعوب بلدان العالم. فكان هذا القرار دافعاً محفزاً للعديد من الشعوب على المطالبة بحقوقهم اللغوية والإعتراف بها ومنها على سبيل المثال التي تم الإعتراف بها الأمازيغية المنعوتة بالبربر في المغرب والجزائر، والكردية والتركمانية والآشورية ـ السريانية في العراق، وإقرار جنوب أفريقيا بعدد من اللغات كلغات رسمية إلى جانب الإنكليزية وفي كينيا على غرار ذلك وغيرها من الدول في آسيا وأفريقيا وأوربا أيضاً.&
&
اللغة والإنتماء القومي
القومية مصلح مستحدث للوجود العشائري بتآلفها وتقاربها من البعض لأسباب تفرضها عوامل الإنتماء الإثني إلى جانب المُقوم الجغرافي واللغوي بشكل خاص وعلى وجه التحديد، تم استحداثه على ضوء الأحداث الإجتماعية السياسية في أواخر القرن الثامن عشر كبديل لمفهوم الأمة أو الدولة لمجموعة من منظري هذه الفكرة في العالم العربي والأوربي بدافع رسم وتحديد الحدود الدولية من دولة لأخرى.
&يتبين لنا هنا وبدافع مباشر بأن الوحدة اللغوية هي مبعث التسمية الحديثة لمصطلح القومية، كإنفصال وتحرر بعض الدول العربية من هيمنة السلطة العثمانية وأستقلالها في رسم حدودها الجغرافية، رغم تمسكها بالرابط الديني، وإقدامها على تسمية القومية العربية التي تبنتها بعض الأحزاب السياسية لجمع شمل البلدان العربية ذات اللغة الواحدة، بالرغم من تفاوت قياداتها ونظرة كل قائد وأبناء شعبه من تلك التسمية بفقدان الضمير الجماعي لمفهوم التضامن ووحدة التآلف حسب ما نلمسه اليوم في سياسات تلك البلدان التي تشكل تسمية الوطن العربي. هذا ما حصل أيضاً في الوجود الآشوري المتبعثر ناهيك عن التسميات المستحدثة ـ &في الولاء لظواهر الإنقسامات العشائرية، رغم تواجدها في مناطق جغرافية متقاربة وإقليمية متباعدة، ليتزعم كل قرية أو تجمع عشائري قبلي رئيس متميز يُعرف بتسمية الملّلِك بمعنى الأمير أو القائد وفق التسمية الأكدية، متزعماً للسلطة بحكم توليه الوراثي أو لأسباب أخرى في التحكم بفض النزاعات والخلافات بين أبناء العشيرة الواحدة، أو عشيرته والعشائر الأخرى، إضافة للإستشارات والتوصيات الصادرة عنه لإتباعها إلى جانب مشورة التفويض الإلهي لرؤساء الدين، ويتم تقليد ذلك بالوراثة دينياً وفق التعاليم المستوجبة، ودنيوياً وفق الأحكام الموروثة والمفروضة منذ حقبة تاريخية لعصور خلت، رغم غياب شمس البعض منها بتأثير محفزات الوعي والثقافة والشعور بموازنة ومقارنة منجزات الماضي عن الحاضر وعلى يد المفكرين المصلحين والمجددين أحياناً، وعلى يد الطموحين المُرتئين من الإنقلابيين لتولي زمام الأمور، مثلما هو اليوم في أغلب الدول العربية والعديد من الدول الأوربية أيضاً ذات الحكم الملكي.
من المتعارف عليه في أمثلتنا الشعبية " شبيه الشئ منجذب إليه " أي مماثل له بصفاته وطبائعه وسلوكه، حيث نعمد من ذلك في توضيحنا بأنه من ينطقا ذات اللغة المشابهة أصلاً، عادة ما يكونا أكثر تواصلاً وتجاذباً وتفاهماً في تجسيد أحاسيسهما وأفكارهما وما يدور في خلدهما بدافع المتعة الوجدانية التي يحسان ويشعران بها، مقارنة بالذي لا يتقن ذات اللغة بشكلها الصحيح أو أنه يجهلها. ومتى ما إفتقد الفرد لغته وهو المنتمي لذات الوجود الإثني عادة ما يشعر بالذنب على عدم معرفته وإعترافه بذلك، وفي الكثير من المواقف تراه يتحسس بالتقصير وضعف الولاء لمجموعته، عندئذ يكون منفرداً وبعيداً من واقع مجتمعه مستسلماً للصمت الذي يحز في نفسه.&

وفي حالات أخرى ترى التباعد مسوغ بتبريرات مفهوم الإلتزام العقائدي الديني المذهبي أو بفكر مبادئ الإنتماء الحزبي والسياسي. ولكي نكون أكثر وضوحاً نجد أن التعاليم الدينية بالنسبة للمسيحية جعلت الفرقة مباشرة بين أبناء ذات الشعب الذي يتحدث بذات اللغة مثلما حصل قديماً بين من سميوا بالنساطرة واليعاقبة، مولدة أغصان فرعية مذهبية لذات الشجرة الأصيلة. ليلتزم النساطرة باللغة التي نشأوا عليها من حيث الحروف واللغة المعروفة باللهجة الشرقية، والجانب الآخر من اليعاقبة إقدامهم على تغيير شكل ولفظ الحروف مع إعتماد الحركات اليونانية. ناهيك عن نظرة الفلسفة المسيحية للكلدان. ولكي نتوسع أكثر نستشهد بالإنشطار الذي حصل في يوغسلافيا بسبب الإختلاف المذهبي بين من يسمون بالصرب والكروات وتُعد لغتهم لغة واحدة، إلا أن إختلافهما المذهبي فصل بينهما &في المجال اللغوي بإعتماد الكرواتيين الحروف اللاتينية، والصربيين بحروف الكنيسة الأرثوذكسية للإغريق. إذن نستنبط من هذين المثالين رغم تعدد الأمثلة لمجموعات أخرى بأن الفلسفة الدينية اللاهوتية أبعدت المجموعة الواحدة من وحدتها إلى مجموعتين متفاوتتين، وأكثر بُعداً عن الوحدة القومية لتنادي كل مجموعة بفكرها القومي بعلة التمذهب الديني. وهنا أليس من حقنا أن نستأثر بمقولة ماركس حين قال: " الدين افيون الشعوب " رغم تأويل غايته لمنطق الصراع الطبقي بغية تحطيم الإستغلال الرأسمالي لمصلحة المعدمين من المجتمعات الفقيرة. وأكبر مثال عن قبل ذلك، استغلال رجال الدين لصكوك الغفران التي استنكرها وفندها مارتن لوثر وأثبت بتحقيق بطلانها بقوة إيمانه لتؤدي إلى انقسام المانيا وسريان المذهب اللوثري البروتستانتي في الشمال والكاثوليكي في الجنوب وبحكم ترجمته للكتاب المقدس بإسلوب لغوي مبسط. لقد تم كل ذلك من خلال التفاسير اللغوية الصريحة والحكيمة، كون اللغة من أولى مقومات القومية وليس الإيمان الديني أو المذهبي. وإن كان الأمر عكس ذلك لأنضوى أتباع الكنيسة السريانية والمشرقية الآشورية في الهند تحت راية القومية الآشورية وكذلك للدول الإسلامية والبعض منها التي تلتهج وتتلسنن أحياناً بالعربية لإنضوت تحت راية القومية العربية. فالدين هنا ـ شئنا أم أبينا ـ لله والوطن للجميع في المواطنة وأحقية التمتع بالإنتماء القومي على ضوء وحدة التسمية اللغوية التي تجمع أفراد العائلة الواحدة كنموذج مصغر ومتميز لمفهوم القومية، وبالتالي اتساع رقعتها بالعشرات وبالأحرى المئات وزد على ذلك لتشكل مفهوم الإنتماء القومي الموحد تحت تسمية واحدة موحدة من منطلق اللغة المشتركة للتعبير والتفاهم والإنسجام والتقارب الدائم، كونها روح الشعب، والشعب هو مكون القومية، كجذور الشجرة النافعة التي هي روح جذعها وأغصانها وثمارها. مثلما نحن اليوم كآشوريين نعتز ونلتزم بجذور تاريخنا وما ورثناه عنهم من عادات وتقاليد كموروثات شعبية وآداب ولهجات لغوية. وكما قيل: " أن اللغة بمنزلة القلب والروح من الأمة، وعلى دعائمها يجب أن تؤسس لهم دولة موحدة ". أن ما نتمناه من هذه المقولة أن نعي وجودنا، وأن نعي أهمية تراثنا، وأن نعي تأثير لغتنا، وأن نعي معنى تآلفنا، وأن نعي عوامل جمعنا وأن وأن وأن... لا أن نُسقط واحدنا الآخر بالدوافع النفعية، ولا أن نستنكر أحدنا الآخر لأسباب فوضوية، ولا أن نشمر عن سواعدنا لأسباب تدعمها القوى الدخيلة، ولا أن نصم آذاننا عن خبرة وتجارب ومفاهيم مفكرينا وأن لا نهمشهم.. حتماً بين أبناء جلدتنا من الإصلاحيين والمدركين ومن هم بمستوى الذين أضاءوا الشموع أمام درب المفسدين والضالين في تاريخ الشعوب ولكن تم حكمهم وإبعادهم واستهجانهم وإغتيالهم وبالتالي أقتفاء ما خلفوه من أفكار إصلاحية والإيمان بها. إذن دعونا أن لا نكون بمستوى اولئك المفسدين والضالين والغافلين.&