تمهيد
من المتعارف عليه بأن اللغة هي مرآة المجتمع، تعكس صيغ الأخذ والعطاء بغية معرفة منطق الإيحاء اللفظي لظاهرة التفاهم. وفي الوقت ذاته هي تلك الأداة التي يتسلح بها الفرد للدفاع عن نفسه وإيصال فكرته بدافع مشجر الإحساس لإدراك الفهم والتفكير بالإقدام على قولبة معاني التعبير بشكل متناسق كضربات أصداء السيوف حين تتمحور الألفاظ بمدلول المعاني المُعتمدة بعامل الإدراك العقلي، وبما يعيه الإنسان من خلال &محفزات الإدراك الحسي بغية الفهم والتفاهم لإستدراج ما ينبغي فعله وإيصاله بالسبل التي يعتمدها كل فرد وبأية لغة كانت.&
ما هي اللغة؟
هل هي مفردة لذاتها؟ هل هي كل ما يصدره اللسان؟ هل هي مصدر الحركات الطبيعية من الإشارات؟ هل هي الرموز المتفق عليها في الحديث؟ هل هي آليات التدوين التاريخي؟ هل هي مبعث الوحي الإلهي؟ هل هي تشكيلة الإلهام الوضعي؟ هل هي خاصة بفئة منتقاة متميزة بها؟ وهل هي اللهجات المستنبطة منها اللغات المتعددة؟ وعادة ما تتوالى إستفهامات " الهل " المتكررة، إن جاز لنا التعبير بذلك! ومما لا شك فيه إن كافة التساؤلات المفترضة تقودنا لتفسيرات وتحليلات متنوعة ومتفاوتة محصورة في مضامير مفسريها ومحلليها من الإختصايين اللغوين والباحثين المخضرمين من الأوائل ومن المحدثين حين يتسلح كل واحد بوجهات نظر مستمدة من الفترة الزمنية التي عاشها وتأثر بتجاربها، أو بإعتماد ما نصت عليه الكتب السماوية منذ الخليقة على أنها من الله. ولهذا تفاوتت النظرات وتضاربت الآراء وتعددت النظريات التي ليس بوسعنا أن نتطرق لها لسعتها وتواجدها فيما لا يحصى من المصادر بلغات مختلفة.
ما يهمنا هنا هو أن نجمع ما أجمع وإتفق عليه اللغويون على تعريف اللغة بشكل متقارب وموحد رغم إختلاف التعابير والتركيب اللغوي التي جسدت معنى اللغة بأساليب مختلفة، حيث إتضح بأن أقربها انحصر في التعاريف التالية:
1. " إن اللغة نظام عرفي لرموز صوتية يستغلها الناس في الإتصال بعضهم ببعض".
2. " إن اللغة هي كل وسيلة لتبادل المشاعر والأفكار كالإشارات الأصوات والألفاظ.. متفق عليها لإداء المشاعر والأفكار".
3. " اللغة ظاهرة نفسية مكتسبة تمليها نوازع الحاجة للتعبير والتفاهم".&
وهناك العديد من التعابير التي تختلف في &صياغاتها التي تهدف لذات المعنى بشكل خاص لا نستبعده مما أوردناه أعلاه.&
كما ويتبين لنا من خلال التعاريف الآنفة الذكرعدة مضامين متقاربة &الوشائج &( الإتصال، تبادل ، تمليها ) ، ( نظام ، المشاعر ، ظاهرة ) وكذلك ( رموز صوتية ، الأصوات والألفاظ ، التعبير) وغيرها.&

دور تعدد اللغات
ومن المتعارف عليه أيضاً بأن اللغة وسيلة للإرسال من قبل المُرسل ليتلقاها المُستَلِم أو المُتلقي بالصدى المقصود في حال الكلام الطبيعي المُكتَسَب. فإن كان المتلقي ثنائي أو ثلاثي اللغة فعليه أن يفقه اللغة التي يُخاطب بها. وعلى أقل ما يمكنه أن يدرك الفحوى، لكون حالة تعدد اللغات من الحوافز على استدراك المضمون. وفي حال التحجج بعدم المعرفة على مضمون المُرسل ـ لفظاً وتدويناً ـ فمعنى ذلك فقدان الوعي والإستيعاب اللغوي للغة الأم، وفق مفهوم النظريات التربوية والنفسية الحديثة التي يؤكدها رجال التربية المتبحرين في هذا المجال من الذين يشيرون بأن من يتقن ويفهم لغته، يتسنى له استيعاب لغة اخرى بكل سهولة. ولهذا أقدمت الحكومة السويدية على إقرار تعليم اللغة الأم منذ المراحل الأولى للطفل أي من مرحلة رياض الأطفال بمصاف اللغة الرسمية المتداولة ولحد المرحلة الثانوية مع توفير كافة مواد ومستلزمات التعليم في المدرسة الرسمية. هذا ما استنتجناه أيضاً من خلال تجاربنا ومراحل تعليمنا لأبناء جلدتنا بتفوق من لهم معرفة شبه كافية بلغتهم الأم مقارنة بمن يجهلها قراءة وكتابة وتكلماً بالشكل الطبيعي.
&
دور اللغة في المعرفة
وبما أن النطق اللغوي ينشأ مع نشأة الفرد، وبمراحل تطور وظائف الأعضاء الخاصة بالنطق، عادة ما تتولد لديه ثروة من المفردات التي تسعفه على الكلام ليكون منحصراً تعبيره اللغوي اللهجوي الدارج وفق نهج البيئة العائلية أو البيتية التي يعيش فيها إلى الوقت الزمني من العمر الذي يؤهله لخوض تجارب التعلم اللغوي الصحيح. عندئذ يكون قد استدرج معرفته بصيغ الكلام المبرمج على ضوء التعبير الفصيح والنطق الصحيح المبني على أصول القواعد اللغوية من حيث النحو والصرف للشكل النمطي المُنظم الخاص بتصريف الإفعال والأسماء بصيغها المختلفة والمتعددة، والإقدام تدريجياً على تشذيب منطق الكلام من التعابير العامية السائدة والدارجة المنشأ والمفردات الغريبة الدخيلة التي يقتفيها من محيط المجتمع المتداخل وهي غريبة وبعيدة عن أصوات الكلام لشعب ومجموعة ما، متخذة مجراها في الأسلوب التعبيري كتابة في حال افتقاد المرادف لها باللغة الأم الأصلية وبشكل خاص حين يكون المحيط العائلي والمجتمعي من ذوي ثنائي أو ثلاثي اللغة من ناحية الأب والأم والمجتمع من منطلق الوحدات الصوتية الأساسية لكل لغة محكية. ومن تلك الإشكالات تواجد عدة شعوب قريبة من بعضها في المنطقة التي يتعايشون فيها، وكذلك دور السيطرة الإستعمارية بفرض نفوذها مثلما هو الحال مثلاً في مواطني أبناء المجتمع الجزائري المتوارثة لديهم العديد من المفردات الفرنسية بسبب الإستعمار الفرنسي، وكذلك في الهند من خلال الإستعمار البريطاني الذي بث روح اللغة الإنجليزية في نفوس شعوبها المتعددة اللغات بدوافع المصالح السياسية وإضعاف اللغات القومية التي استيقظ الناطقون بها لإثبات وجودها بعد تقلص واستبعاد الهيمنة البريطانية وبالتالي لتخوض تجربة الصراع في سيطرة لغة مجموعة ما كلغة رسمية على لغات ولهجات مجموعات أخرى والولايات أو المناطق الجغرافية التي لا تتعامل باللغة المفروضة عليهم والإستعاضة بالإنجليزية بغية اتساع رقعة التعليم اللغوي والمعرفي بها. ومن جراء ذلك أدت تلك السياسة إلى إحتجاجات وصراعات ذهب ضحيتها المئات إن تكن الآلاف من القتلى والجرحى ومن تم اعتقالهم وزجهم في السجون بعد إختفاء وزوال نفوذ اللغة الإنجليزية بشكل تدريجي.

اللغة والثقافة
إن كانت الثقافة ظاهرة خلقية وتوعوية تنجم بين بني البشر، فاللغة هي مصدرها ونبع وجودها، تخلقها مبادئ التدوين والمشافهة التي عمادها وسائل الإعلام وما يبرزه الفكر التنويري من نتاجات. لهذا نجد بأن أي علم من العلوم لا يخلو من سمة الثقافة. وبما أن كافة العلوم مصدر تواجدها من خلال اللغة، يتحتم على الفرد أن يستوعب التعبير اللغوي الخاص بكل علم من العلوم لإثراء المعرفة. من هذا الإعتبار ينجلي الأمر بأن من يتسلح بالتعدد اللغوي كثنائي اللغة مثلاً وفق ما أشرنا إليه سابقاً، عادة ما يكون ثنائي الثقافة حين يستمد معرفته من تلك اللغات التي يتقنها ويتأثر بها ليعمد على تطبيق مضامينها في حديثه وسلوكه وعمله وحتى في أحاسيس إنفعلاته عن مصدر وعيه وإدراكه بدلالة ظاهرة الحركات التعبيرية واللفظية محتمة أياها المعايشة في مجتمعين متفاوتين في العادات والتقاليد، كمن يعيش ويواصل تعليمه العلمي التخصصي في بلد أجنبي تتفاوت فيه ما ورثه عن ما هو في مجتمع وطنه الأم. كما وأن مفهوم التثقيف الذاتي كما يبدو لا ينحصر ويتحدد فقط على ما هو متعارف عليه والمألوف من مقولة " اكتساب شئ من كل شئ " في حين المعرفة التخصصية بعلم من العلوم الصناعية مثلاً أو العلوم الإنسانية بما فيها من الحقول الأدبية أو السياسية تبدو أهميتها أعلى وأرقى من المقولة المألوفة، لكون العلوم الأدبية والتقنية تثريها مقدرة وكفاءة اللغة التي تساعد على استدراك النهضة الفكرية في كافة جوانبها. عندئذ يتم وصف المتحدث ونعته بأنه متثقف بثقافة فرنسية أو سويدية أو ثقافة البلد الذي تخصص فيه، متسلحاً بالإزدواجية اللغوية والثقافية. وهنا يتضح بأن اللغة هي عماد الثقافة، طالما تشكل ظاهرة اكتساب معرفة جديدة لبناء الشخصية المعطاءة المتسمة بروح التفاؤل في الأخذ والعطاء. &
إلى الملتقى في القسم الثاني من موضوع اللغة والإنتماء القومي والمطالبة بالديمقراطية اللغوية.
كاتب آشوري عراقي
&