&
التيار الصدري، وبشكل مباشر زعيمه السيد مقتدى الصدر، ينتقل لمرحلة جديدة من النفوذ والقوة. لم يعد بيضة القبان التي حسمت الموقف قبل عشرة أعوام لصالح مرشحي حزب الدعوة في رئاسة الوزراء ضد مرشحي المجلس الأعلى، بل يقود حراكاً واسعاً في الشارع، بعد أن تراجع المرجع السيد السيستاني عن المساهمة السياسية منذ بدايات شباط الماضي. عدد من الاسماء المدنية التي قادت تظاهرات بغداد أعلنت دعمها لحراك الصدر، فيما يمكن فهمه أنه تحالف مؤقت بين تيار سياسي ديني واسع، وتيار سياسي علماني داخلي.
مطلبا الإصلاح ومكافحة الفساد مثلا ايقونة كل التظاهرات منذ ثاني جمعة، وهما ايضا مطالب الاعتصامات التي يقودها التيار الصدري الآن. مطالب مهمة جدا، يضاف إليها حكومة التكنوقراط التي اقترحها العبادي وبادر الصدر اليها، وشكل لها لجنة خاصة. لكن هذه الايقونات رغم أهميتها، عامة وفضفاضة، بل وتمثل مطالب تقليدية. هي تحتاج الى مشروع واضح وصريح وتفصيلي وواقعي ايضا.
فمكافحة الفساد ليست عملية هيّنة، وأكثر القيادات السياسية والمسؤولين لم يتركوا دليلا عليهم، خصوصا ونحن في واقع قضائي ضعيف. الأهم من شعار مكافحة الفساد، هو مشروع مكافحة الفساد والقاعدة التي يعتمدها والأسس التي تقنع الجماهير الحاضرة في التظاهرات او الداعمة لها او تلك الصامتة، بأن الأمر تم فعلا. والتصدي للفساد يكون من رؤية مشروع دولة حديثة، وليس خارجها، لأننا جربنا كل المحاكمات الثورية التي انتجت كآبة عراقية حادة نقطف ثمارها الآن. عدا عن هذا إن مكافحة الفساد المجزأة والتي تقتصر على جهة دون أخرى، تعني مكافحة الفساد بالفساد. صحيح أن هناك قوى أكثر فساداً، لكن هذا ليس لأن الآخرين أقل فساداً، بل لأنها تسلطت على مال سائب أكثر من غيرها. منظومة النهب جميعها يجب أن تواجه العقاب، ولا يصبح أي عراقي فوق هذه القاعدة، مهما كان وكانت مكانته.
أما الإصلاح، فهو أيضا ليس واضحا. الحكومة بنيت على توازنات معينة، فرضتها ثنائية (دستور ـ مكونات). وهذه الثنائية هي إحدى أهم أسباب الداء العراقي، لغياب أحزاب عابرة للطوائف والاديان والقوميات، عدا استثناءات محدودة معروفة لدى الجميع، وهي لا تمثل ظاهرة بل حالات. بمعنى أن الداء العراقي مزمن، ولا يمكن فرض صيغة أخرى. ولو قدر أن التظاهرات اسقطت هذه العملية السياسية، واقتنع الشيعة بقوة مركزية تقرر بالنيابة عنهم، فما هو مشروع مشاركة السنة والكرد في هذه المعادلة؟ الأمر الواقع لا يكفي لصناعة تغيير في هذه الثنائية. فلا ضمانات من أن يرفض الكرد حينها ويعلنون دولتهم، وينفصل السنة في مدنهم بعد تحريرها من داعش. الإصلاح بحاجة الى مشروع ايضا مواز للتظاهرات.
يجيب رئيس الحكومة والتيار الصدري والتيار المدني بأن مشروع الإصلاح هو حكومة التكنوقراط. تبدو فكرة مغرية، لكن على أي قاعدة تبنى، وعلى أي توازنات، وهل هناك تصور مشترك بين قيادة التظاهرات وقيادة الحكومة حولها؟
سيراعى طبعا تمثيل المكونات والكتل، بطريقة مفوضية الانتخابات، التي تسمى بالمستقلة اسما، لكنها بالنهاية تمثل الكتل النيابية، مهما قيل إنها مستقلة أو تكنوقراط. حكومة التكنوقراط لن تكون نسخة أفضل من مفوضية الانتخابات أو مفوضية حقوق الانسان التي يتنازع رجالها ونساؤها على ترؤسها! ان القرار السياسي هو المطلوب. وهذا القرار لا يكتمل بدون وجود مشروع كامل الملامح يطرح على بقية الشركاء، ويحظى بدعمهم، وحين لا يحظى يفكر بالبدائل. فليس المطلوب أسماء وزراء هذه الحكومة، بل كيفية اختيارهم واليات التعامل معهم ومستوى استقلالهم وفي الوقت نفسه خضوعهم للقضاء. ثم لا يمكن ان نفترض حكومة تكنوقراط بدون المناصب الدنيا من وكلاء وزراء ومدراء عامين، وهذه قضية اساسية لا تكفي فيها الشعارات. فضلا عن هذا إن رئاسة هذه السلطة من قبل حزبي أيضا مأزق.
عدا عن هذا، هناك نقطة غاية بالأهمية، ربما يسعى التيار الصدري الى عدم الحديث عنها، وهي ادارة حزب الدعوة للحكم، ويبدو أن التيار ومعه شركاء آخرين، يتحدثون عن هذا الامر سلبا بطريقة غير رسمية حتى الان. وهذا الأمر لو كان هو المطلب، فيجب أن يطرح بوضوح، خصوصا وإننا نتحدث هنا عن حزب فشل في إدارة الحكم، لكن البديل ليس الكتل الموجودة. فكما جرب العراقيون ادارة حزب الدعوة لرئاسة الوزراء جرب ادارة الاخرين لوزاراتهم ومحافظاتهم. فحتى التيار، باستثناء محافظ ميسان، أخفق في إدارة وزاراته ومحافظاته، واتهامات الفساد غير قليلة.
وسمع التيار الصدري من عدد غير قليل من المثقفين والمدنيين تصوراتهم، وربما كانت التظاهرات المدنية فعلا اساسيا في توجيه التظاهرات بنسختها الراهنة، لكن هناك رؤى أخرى وتصورات اضافية، ستقال بقوة وصراحة شريطة أن يشعر أصحابها بالأمان من غضب تيار لا يقبل النقد أو يتحسس من أي رأي فيه قليل أو كثير من القسوة في الطرح. فالتظاهرات بالنهاية صنعت أملاً لدى شرائح، لكن عقبات كثيرة حالت دون أن تصنع ذلك لدى شرائح أخرى.. وهي رهن بمطالبها التي لا يكفي فيها شعارا مكافحة الفساد او الاصلاح، بل مشاريع صريحة، تحدد تصورها بعيدا عن أي فئوية ومعركة نفوذ بين القوى الرئيسية، ومراجعة شاملة لبنية الحياة السياسية ومن ضمنها بنية التيار الصدري نفسه.
فجماهير التيار ستقتنع بأي شيء يقوله زعيمهم الملهم لهم، وقوة التظاهرات بهذه النسخة تصنع شكلا من الحراك يرضي جماهير اخرى، لكن لابد من اقناع الأغلبية، وهي صامتة الان، أو حذرة، تؤمن بالتغيير، ولا تريد فساداً أو استهتاراً وقمعاً على رأس السلطة، لكنها تخشى من التاريخ والحاضر، من التفاصيل الكثيرة التي لم يتوقف عندها التيار الصدري. الأمر رهن بالمشروع، بإدارة برامج الحكم، بالأهداف التفصيلية.
الإصلاح تغيير جوهري بالاسماء وشكل ادارة الحكم، والفصل بين السلطات، وصناعة ديمقراطية حقيقية وليس شكلية على اساس متطلبات احزاب غير ديمقراطية، في بلد لا يمتلك جيشا قويا بل جماعات مسلحة. وإن الاصلاحات التي تقف في منتصف الطريق داخل منظومة نهب، أو التي تزيح منافسين معينيين وتبقى المشهد العام كما هو، هي كالطعام الفاسد، سيسمم الجميع، في ظل انتشار السلاح والمال السياسي الداخلي والإقليمي وضعف الولاء وانقسام الطوائف ووجود مراكز قوى أكبر من الدولة وأكبر من العراق.
&