بالأمس، اعلن مسؤولون حكوميون أمريكيون أن الرئيس باراك أوباما سيقوم بزيارة تاريخية إلى كوبا في الأسابيع المقبلة، وهي خطوة تشكل نقطة تحول في العلاقات بين البلدين، بعد أكثر من نصف قرن من العلاقات العدائية بين البلدين، ما يثير بالتبعية سؤالا بديهياً حول احتمالات قيام أوباما بزيارة مماثلة إلى طهران.
أدرك أن الغالبية تستبعد هذا السيناريو للوهلة الأولى، وقد يتهمني البعض بالسذاجة السياسية المفرطة، أو ـ لنقل تأدباً ـ عدم إدراك التباينات العميقة بين الملفين، الكوبي والايراني، ولكني اعتقد أن هذا الأمر مطروح وبقوة في ظل ما يجري حولنا من تطورات اقليمية ودولية متسارعة، فضلا عن شغف الرئيس أوباما نفسه لدخول التاريخ وربط اسمه باختراقات مهمة في السياسة الخارجية الأمريكية خلال الفترة المتبقية من ولايته الرئاسية الثانية والأخيرة.
زيارة أوباما المرتقبة إلى كوبا، ستكون أول زيارة لرئيس أمريكي، وهو في سدة الرئاسة، لكوبا منذ الثورة الكوبية في عام 1959، وهناك تباينات في طبيعة الخلافات التي باعدت بين واشنطن وكل من كوبا وإيران خلال السنوات والعقود الماضية، وهناك أيضاً تفاوتت في مسارات المعالجة، حيث أعادت واشنطن تأسيس العلاقات الدبلوماسية مع هافانا رسمياً في يوليو الماضي، وافتتجت سفارتها في العاصمة الكوبية خلال شهر أغسطس الماضي، في حين تبدو العلاقات الايرانية ـ الأمريكية ـ في نظر الكثيرين ـ بعيدة بمسافات عن هذه المرحلة المتقدمة من تطبيع العلاقات.
وفي المقابل هناك مشتركات كثيرة لا ينبغي القفز عليها بين ملفي كوبا وإيران، فإذا كان جون كيري هو أول وزير خارجية أمريكي يزور هافانا منذ الستينيات لحضور حفل افتتاح السفارة الأمريكية في العاصمة الكوبية، فالعلاقات التي تجمع كيري مع وزير الخارجية الايراني جواد ظريف تبدو قوية والاعلام الأمريكي يتحدث عن "لغة &تفاهم" واضحة بين الوزيرين. وإذا كانت كوبا التي كانت مدرجة على القائمة الأمريكية للدول الراعية للارهاب قد رفعت بقرار من البيت الأبيض، فإن إيران التي لا تزال تسكن هذه القائمة أيضاً تطمح إلى الخروج منها قريباً، وهذا أمر ليس بمستحيل لمن يقرأ مايدور حولنا بعين فاحصة.
ثمة قاسم مشترك آخر يتمثل في قيادة البلدين، أي راؤول كاسترو وحسن روحاني، فبدايات عهدهما شهدت انفتاحا في ملفات الخلاف مع الجانب الأمريكي، ويبقى الفارق الوحيد هو سيطرة المرشد الأعلى الايراني على مقدرات الأمور في البلاد، وله أن يترك روحاني يمضي على درب التقارب مع واشنطن، أو يكتفي بهذا القدر من الانفتاح مع واشنطن، الذي يزعج ملالي طهران المؤدلجين ويقض مضاجعهم.
لا استطيع أن أنكر الاختلاف بين حالتي إيران وكوبا، لاسيما ما يتعلق بموقف اللوبي اليهودي المؤثر في مؤسسات صناعة القرار الأمريكية، وكذلك فيما يتعلق بحسابات الرئيس أوباما ذاته الذي يوازن بين أمور عدة في التعاطي مع إيران، أهمها ما يعتبره "خلافات عميقة" لا تزال قائمة مع إيران لا سيما في ما يتعلق بسلوك إيران الذي تصفه واشنطن بانه "يزعزع الاستقرار الاقليمي"، وقلقه من إغضاب حلفائه من دول مجلس التعاون وخشيته من التهديد الايراني المحتمل للحليف الاسرائيلي. ولكن في المقابل، هناك حلم أوباما الشخصي لدخول التاريخ الأمريكي من بوابة اختراق ملفي العداء مع كوبا وإيران، فضلا عن أن أوباما نفسه يرى أن "عدم الحديث مع إيران لعقود لم يساهم في تقدم المصالح الأمريكية"، ويرى أيضاً أن "الاتفاق النووي مع إيران جعل العالم أكثر أمناً"، وأنه "من خلال التواصل المباشر مع إيران أصبحت لدينا القدرة على حل قضايا أخرى"، وبالتالي فهو يحرص على تشجيع طهران للمضي على درب الحوار، ويبث لها بين الفينة والأخرى رسائل تشجيع مثل "إيران أمام فرصة تاريخية لبناء علاقات جديدة مع العالم لصالح شعبها" ويوجه كلامه للشعب الايراني قائلا "لدينا الآن أفضل فرصة منذ عقود للسعي نحو مستقبل مختلف بين بلدينا."
وباعتقادي، فإن أوجه المقارنة بين إيران وكوبا ومحاولة بناء تصور حول امكانية زيارة أوباما لطهران قبيل انتهاء ولايته الرئاسية، يتطلب اطلالة سريعة على نموذج مماثل في تاريخ الدبلوماسية الأمريكية، وهو ملف العلاقات مع الصين، فالدكتور هنري كيسنجر قام بـ "رحلة ماركو بلولو الشرقية" الشهيرة إلى بكين بشكل سري في عام 1971، ولم تكن هناك علاقات دبلوماسية بين الجانبين، كما قام الرئيس الأمريكي الأسبق نيكسون بزيارته التاريخية إلى الصين بعدها بأشهر، وكانت هذه هي الزيارة الأولى لرئيس أمريكي لدولة ليس بينها وبين الولايات المتحدة علاقات دبلوماسية.
ويخطىء من يظن أن العداء بين إيران والولايات المتحدة هو العقبة على درب تطبيع العلاقات، فالعداء الصيني ـ الأمريكي كان قد بلغ حداً دفع واشنطن لاستخدام نفوذها لابقاء الصين خارج الأمم المتحدة، وهو خطأ تقدير استراتيجي اعترف به الرئيس ايزنهاور، كما كان عداء الرئيس الأسبق ريتشارد نيسكون للصين شديد ولا يقارن بأي مشاعر عدائية لمسؤول أمريكي حالي تجاه إيران، بل إن مشاعر نيكسون قد دفعت المراقبين لاستبعاد أي احتمال لتحسن العلاقات مع الصين بعد وصوله للبيت الابيض في عام 1968، لكن مصالح بلاده وتقديرات الخبراء الايجابية لامكانية استخدام نفوذ الصين في انهاء التورط الامريكي في فيتنام عجل بتغير موقف نيسكون إلى النقيض.
ثمة مفارقة أن أحد نقاط التقاء واشنطن وبكين تمثلت في الرغبة في التصدي لنفوذ الاتحاد السوفيتي السابق، وهي رغبة أسهمت في قفز نيكسون على حسابات واشنطن المتعلقة بتايوان التي ارتبطت مع الولايات المتحدة بمعاهدة دفاعية عام 1954، ومعها مصالح اقتصادية وتجارية بمليارات الدولارات، والقفز أيضاً على تعاطف الأمريكيين الشديد مع الشعب التايواني.
الأمر أيضا لا يقاس بوجود سفارات وتبادل للسفراء باعتباره شرطاً لزيارة رئيس أمريكي لدولة أخرى تصنف في خانة العداء لواشنطن، فزيارة نيسكون سبقت وجود السفارة الأمريكية بعام ونصف تقريبا، بل إن عهد نيكسون لم يشهد تبادلاً للسفارات مع الصين، واقتصر الأمر في عام 1973 على مكتبي اتصال، لم يرتقيا لتسميتهما بسفارات.&
هذا الانفتاح الأمريكي على الصين أسفر في النهاية عن انهيار الاتحاد السوفيتي السابق، &فهل يفكر أوباما في أن يستنسخ سيناريو مماثل بتفخيخ علاقات التحالف المتنامية بين إيران وروسيا، وفتح صفحة جديدة مع طهران من أجل انهاء الحلم الروسي في عهد بوتين؟ ويصبح ثاني رئيس أمريكي يزور دولة لا تمتلك الولايات المتحدة تمثيل دبلوماسي معها.
العلاقات الدولية مليئة بالتجارب والأمثلة والتناقضات أيضا، وبالتالي لا يمكن استبعاد أي سيناريو مهما تراجعت فرص تحققه، بما في ذلك زيارة الرئيس أوباما إلى طهران، ولكن يبقى اقتراب فرص تحقق هذه الزيارة مرهون إلى حد ما بمواقف ملالي إيران وحدود براجماتيهم، التي يمكن أن تدفعهم لعناق &"الشيطان الأكبر"، بعد أن ذاقوا طعم "المصافحة" منذ توقيع الاتفاق النووي ورفع العقوبات الدولية المفروضة على إيران.
النقاش هنا لا يتعلق فقط بإيران، بل يرتبط جوهرياً بشبكة التحالفات المتغيرة في منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط؛ إذاً، علينا الاستعداد لأي طارىء مهما تضاؤلت فرص تحققه.
&