&
يقول البعض أن تعيين وزير للتسامح في دولة الامارات العربية المتحدة ليس سوى نوع من الوجاهة أو تجميل الصورة النمطية للدولة اقليمياً ودولياً، وهذه نوعية من الآراء التي لا تحتاج إلى الرد عليها لسبب بسيط أن أصحابها لم يكلفوا أنفسهم عناء البحث عن العلاقة بين الامارات ومفهوم التسامح من ناحية الرؤية والتخطيط والتنفيذ؛ حيث يدرك أي مراقب أو باحث أن تحليل مضمون الخطاب السياسي الاماراتي، يكشف بسهولة عن اهتمام رسمي نوعي متزايد منذ سنوات مضت بغرس قيم معينة في المجتمع الاماراتي، وفي مقدمتها التسامح والتعايش والاعتدال.
ولقد بذلت دولة الامارات جهوداً كبيرة خلال السنوات الفائتة من أجل تكريس هذه القيم على الصعيد المجتمعي، فأسست مراكز البحوث المتخصصة في نشر الفكر الديني المعتدل ومكافحة التطرف والتشدد، كما استضافت ـ ولا تزال ـ الكثير من الفعاليات والأنشطة البحثية والعلمية الاقليمية والدولية الهادفة إلى بلورة آراء وتصورات جادة حول التواصل بين الحضارات وبناء مشتركات تحول دون نجاح دعاة الصراع الثقافي والحضاري والديني من بلوغ أهدافهم، فضلا عن إصدار الدولة منذ أشهر قلائل قانون مكافحة التمييز والكراهية، وهو قانون يصب في الخانة ذاتها ويهدف إلى استئصال الكراهية النابعة من الدين أو الجنس أو العرق من المجتمع الاماراتي، كما يعكس طبيعة الشعب الاماراتي المتسامح، الذي يعد من أكثر شعوب العالم انفتاحاً على الآخر وقبولا له، ومن عاش على هذه الأرض الطيبة، لفترة قليلة أو كبيرة، يدرك هذه الحقيقة جيداً.
وبشكل عام فإن اهتمام دولة الامارات بقيمة التسامح تحديداً نابع من اعتبارات عدة، في مقدمتها أنها قيمة انسانية إسلامية نبيلة تظهر الوجه الحقيقي لديننا الحنيف، وتعلي شأنه وتعزز صورته الذهنية في مقابل الاساءات التي يتلقاها هذا الدين سواء من جانب التنظيمات الارهابية المتشددة، التي تقدم وجهاً قبيحاً مشوهاً للإسلام، أو من جانب أعداء هذا الدين في أي منطقة أو دولة، أو من الجانبين معاً بحكم كونهما يشكلان ما يشبه التحالف غير المعلن لتشويه صورة الدين الاسلامي الحنيف. والاعتبار الثاني أن المجتمع الاماراتي المعروف بتعدديته السكانية الفسيفسائية الناتجة عن استضافة أقليات تنتمي إلى أكثر من 200 جنسية من دول العالم، ويعتنقون ديانات سماوية وغير سماوية يصعب حصرها بدقة، هي أحوج ماتكون إلى مشتركات مجتمعية متينة قائمة على قيمة التسامح، التي تفتح الباب بدورها أمام قيم انسانية نبيلة أخرى مثل قيمة التعايش وقبول الآخر والانفتاح على الثقافات والتفاعل الايجابي معها بدلا من صيغ الاحتراب والصراع التي يروج لعا أعداء الانسانية من الارهابيين والمتطرفين، المنتمين إلى مختلف الديانات والحضارات.
والاعتبار الثالث يتمثل في أهمية تكريس قيمة التسامح ودورها الحيوي في ضمان الأمن والاستقرار الداخلي، الذي تنعم به دولة الامارات، ويعد أحد أهم سماتها ونقاط جذبها الحضارية والانسانية، فالتسامح هو الضمانة الأساسية للتعايش بين الأفراد واحترام حقوق الانسان، وهو المضاد للظلم والقهر والتعسف والكراهية والعنصرية وغير ذلك من آفات ابتليت بها مجتمعات ودول أخرى فكانت هذه الآفات بوابة لصراعات أهلية واحتراب لا يُدرك مداه الكارثي حتى الآن. والاعتبار الرابع أن قيمة التسامح تصب في سلة تعزيز الثقافة والهوية الوطنية، وتمتين قيم الولاء والانتماء لتراب هذا الوطن، وهي أمور لا تقتصر على المواطن الاماراتي بل تشمل المقيمين أيضا، ونظرة بسيطة على أجواء الاحتفالات باليوم الوطني ـ على سبيل المثال ـ كافية للتعرف إلى مدى تجذر حب الامارات بين سكان هذا البلد الطيب جميعهم، فالمقيم يشارك في الاحتفالات بفرحة لا تقل مطلقاً عن شعور المواطن بالفرحة والانتماء لهذا البلد. والاعتبار الرابع أن قيمة التسامح هي الضد تماماً من نزعات التعصب والغلو والحقد وكراهية الآخر سواء كان قريباً أو بعيداً، فهي تعمل في اتجاه مضاد لخرافات الجهلاء من دعاة التدين، فهي تفعيل لقول المولى عزو وجل "ولا تستوى الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم" (سورة فصلت الآية 34).
وقد لاحظت أن البعض يستغرب وجود وزارة مخصصة للتسامح، وفي تفسير ذلك من وجهة نظري البحثية، أقول أن الهدف ليس شكلياً كما يعتقد البعض، بل هدف جوهري نابع من إعلاء أهمية الموضوع ومنح الوزارة المستحدثة السلطة اللازم لغرس هذه القيمة وتكريسها في المجتمع الاماراتي، والمسألة في هذا الإطار لها أبعاد وجوانب متعددة ومتشعبة، ولا تقتصر على الحديث عن التسامح في الخطاب الديني أو البرامج الاعلامية والحوارات الصحفية، فالمقصود بالتسامح هنا لا يقتصر على الدين الاسلامي، فقد ذكرت أن لدينا أقليات وجنسيات شتى تتعايش في أمان على أرض الامارات، والامساك بخيوط المسألة في هذه الحالة يبدو أمر ليس بالهين، ويحتاج إلى وزارة لها سلطة على الأجهزة والهيئات المعنية، كما يحتاج إلى جهود على مستويات متوازية مثل ميدان التعليم، وقوانين العمل والقطاعات التربوية والاعلامية المعنية بتنمية الوعي الجمعي وترسيخ قيمة التسامح بين السكان جميعهم ومحاربة التفرقة والكراهية على أسس طائفية أو دينية أو مذهبية أو قبلية أو عرقية أو غيرها، وهي جهود استباقية أو وقائية لازمة قبل مرحلة التعاطي القانوني اللاحق لوقوع أي جريمة من جرئم الكراهية والتفرقة.
يقول البعض أن استراتيجيات الامارات المستقبلية نابعة من المتغيرات الاقليمية، وفي مقدمتها الاضطرابات التي تجتاح دول عربية عدة وخطر تنظيم "داعش" الارهابي وما ينذر به من تمدد واستقطاب لشريحة الشباب، وهذا أمر ـ لو صح ـ لا اعتقد أن فيه ما يعيب الامارات أو غيرها من الدول إن هي خططت للتعامل مع التحديات الاستراتيجية قبل ان تتحول إلى تهديدات تتصاعد في خطرها وتنذر بما هو أخطر، فالتخطيط الاستراتيجي هو بالاساس قائم على تفكيك البيئة الاستراتيجية، الداخلية والخارجية، وتشخيص التحديات والتهديدات بدقة فائفة، ثم وضع الحلول والرؤى والتصورات والبدائل للتعامل مع كل منها، ومن ثم فإن معالجة التحديات أمر ايجابي ولا غبار عليه طالما أن العلم والتخطيط وتوظيف الموارد الوطنية هو السبيل لوقف زحف أي خطر خارجي يهدد المكتسبات والانجازات التنموية الوطنية للدول والشعوب. ومن ثم فإن وجود وزارة للتسامح تضع في صدارة اهتماماتها إعلاء هذه القيمة الانسانية والدينية النبيلة وصولاً إلى مجتمع تعددي متسامح يمثل أحد تجليات التخطيط العلمي السليم لبناء مستقبل أفضل ليس فقط لدولة الامارات العربية المتحدة بل للدول والشعوب العربية جميعها، بحكم أن الامارات تضطلع بمهمة بناء نموذج تنموي عربي إسلامي مضاد لما يقدمه أعداء البشرية وصراع الحضارات.
&