&
الأصول التي تقوم عليها العقيدة الإيمانية لا ترتبط ارتباطاً وثيقاً بشخص النبي أو نسبه أو ما يلحق تلك التعريفات من مميزات خارجة عن المقتضيات المصاحبة للمعارف اليقينية التي يتوجب على الناس الأخذ بها، وأنت خبير بأن هذه القياسات لا تعدو كونها اجتهادات تقليدية لا يمكن الركون إليها أو الاطمئنان بها وهذا ما جعل الصفات السلبية لدى أهل الكتاب وكفار قريش تنحو بنفس الاتجاه، والدليل على ذلك هو اعتقادهم المشترك في إظهار أهمية وعظمة الشخص المرسَل إليه بغض النظر عن الاختيار الإلهي وما يترتب عليه من حكمة لا يعلمها إلا هو جل شأنه ولذلك نرى أن المشركين كانوا أقرب إلى هذا الاعتقاد، وقد أشار سبحانه إلى هذا المعنى حكاية عنهم بقوله: (وقالوا لو لا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) الزخرف 31. ولا يخفى على ذوي البصائر أن قولهم هذا يدل على إخلادهم إلى الأرض ومغرياتها وما يلحق ذلك من اهتمام بشخص النبي وما يتمتع به من مزايا دنيوية كالمال والجاه وما إلى ذلك من المقامات الرفيعة التي يظنون أنها الطريق الأسلم لإيجاد الكمال سواء في الدنيا أو الآخرة، أما إذا كان النبي لا يملك المقومات المشار إليها فإنه لا يستحق القيام بمهمة الوحي، ولهذا عقب الله تعالى على ما كانوا يعتقدون بقوله: (أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ورحمة ربك خير مما يجمعون) الزخرف 32. أي إن كانوا لا يستطيعون تقسيم المعيشة بينهم فكيف يريدون أن يقسموا ما هو أعلى منزلة منها وهو اختيار النبي الذي يعد من آثار رحمته سبحانه.
فإن قيل: كيف ينسب الله تعالى تقسيم المعيشة إليه ونحن نعلم أن ذلك يرجع إلى جهد الإنسان وسعيه؟ أقول: يظهر من اختلاف الأرزاق أن الأصل في التقسيم عائد إلى حكمة الله تعالى، وما سعي الإنسان وجهده إلا أحد الأسباب المؤدية إلى الحصول على الرزق دون العلة الكاملة التي يريد تعالى من خلالها جلب المنفعة للناس وهذا ما يفهم من الآية آنفة الذكر التي بينت أن هناك فروقات معيشية ترفع بعض الناس فوق بعض لأجل أن يكون بعضهم مسخراً لبعض، وإلا لم تستقم الحياة على الصورة المرادة منها، ومن هنا تظهر النكتة في قوله تعالى: (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير) الشورى 27. وختام الآية فيه إشارة إلى أمر مطلق يدلل على وضع الشيء في موضعه، وكما تعلم فإن الرسالة هي إحدى مصاديق هذا المفهوم العظيم ويعضد هذا المعنى بقوله: (وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى) طه 13. وكذا قوله تعالى: (وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون) القصص 68. ويظهر من آية سورة القصص أن تدخل الإنسان في الاختيار الإلهي يعد من الشرك ولذلك نزه تعالى نفسه عن اختيارهم باعتبار أن هذا الاختيار التكويني ترجع أسبابه إليه سبحانه إلا أن الإنسان يجهل كثيراً من متعلقاته، وهذا المعنى ينطبق تمام الانطباق على بني إسرائيل الذين أرادوا أن يكون اختيار شخص النبي موافقاً لرغباتهم الزائلة ما جعل حسدهم يكبر ويأخذ بعداً واسعاً وذلك بسبب تفكيرهم الذي لا يتناسب مع القيم الإنسانية أو الأحكام الموحى بها من السماء.
من هنا يظهر أن الله تعالى قد سجل عليهم هذه النزعات وبين لهم الطريق الموصل للإيمان والذي لا يرتبط بشخص النبي أو قوميته وإنما يرجع الأمر في ذلك إليه سبحانه، وهذا ما يفهم من قوله تعالى: (وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا) البقرة 91. وكما ترى فإن الغرض المراد من الآية يتعلق بالوحي دون الموحى إليه، وبناءً على ما تقدم نعلم أن تقييد الوحي وخضوعه للانتماء الشخصي لا يعد إلا تحكماً بأمر الله تعالى، وهذا يجعلنا على يقين بأن مقام النبي يسمو بالوحي دون شخصه، مع ملاحظة أن الاختيار الإلهي لم يكن عبثياً "وقد أشرنا إلى ذلك أكثر من مرة في كتابنا هذا" وكما أسلفنا فإن قياسات أهل الكتاب لا تثبت أمام الحقائق التي بينها تعالى لهم وألزمهم بها، وسيمر عليك هذا المعنى في تفسير آية البحث.
وقفة مع آية البحث:
قوله تعالى: (بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغياً أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباؤوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين) البقرة 90. (بئس) من الأفعال الجامدة كأختها (نعم) والأولى تدل على الذم والثانية على المدح والأصل فيهما المبالغة، وبناءً على هذا يكون المعنى بئس الشيء الذي باعوا به أنفسهم لأن الشراء والاشتراء بمعنى البيع، وإن فرق بعضهم في دلالة كل لفظ منهما إلا أن المعنى لا يخرج عن العوض سواء بالمال أو بغيره، ثم فسر تعالى ذلك الشيء الذي باعوا به أنفسهم بالكفر بما أنزل سبحانه أي القرآن الكريم. وقوله تعالى: (بغياً) معناه طلباً وفسر بالحسد أي حسداً لما أنزل الله تعالى على نبي ليس من قومهم، ولذلك ختم تعالى الآية بقوله: (فباؤوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين) وهذه الخاتمة كالنتيجة لما صدر عنهم من فعل أدى بهم إلى بيع أنفسهم ليأخذوا عوضاً يؤول بهم إلى الهلاك.
&وللمفسرين في معنى قوله تعالى: (غضب على غضب) آراء كثيرة تكاد تكون متقاربة أذكر منها:
أولاً: الغضب الأول: حين قالوا: (يد الله مغلولة) المائدة 64. والثاني: تكذيبهم النبي والقرآن.
ثانياً: الغضب الأول: لاتخاذهم العجل، والثاني: لكفرهم بالنبي (ص) وما جاء به من عند الله تعالى.
ثالثاً: الغضب الأول: تكذيبهم رسول الله، والثاني: عداوتهم لجبريل.
رابعاً: الغضب الأول: تكذيبهم عيسى والإنجيل، والثاني: تكذيبهم محمد والقرآن.
خامساً: الغضب الأول: بسبب الكفر والحسد، والثاني: كفرهم بمحمد وعيسى.
سادساً: الغضب الأول: تبديلهم التوراة وتحريفها، والثاني: تكذيبهم الأنبياء وقتلهم.
وعندي: أن معنى قوله تعالى: (فباؤوا بغضب على غضب) من آية البحث. لا يراد منه ما ذكر في الآراء الآنفة وإنما يراد منه المبالغة في الغضب، كما في قوله تعالى: (وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) البقرة 61. وكما ترى فإن الآية جامعة لكثير من صفاتهم، من الكفر بآيات الله وقتل النبيين بغير الحق إضافة إلى العصيان الصادر منهم وما لحق به من اعتداء بغير تقييد، وبهذا تظهر النكتة في قوله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم... صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) فاتحة الكتاب 6- 7. وذهب الجمهور إلى أن المغضوب عليهم هم اليهود.
ودليلنا على المبالغة في الغضب يرجع إلى ما يقابله من المبالغة التي ذكرها سبحانه في إشارته للنور، وذلك في قوله: (نور على نور) النور 35. أي مبالغة في عظمة النور، وكذا قوله تعالى: (ظلمات بعضها فوق بعض) النور 40. أي مبالغة في الظلمات.
ومنه قول أبي الطيب المتنبي:
أرق على أرق ومثلي يأرق... وجوًى يزيد وعبرة تترقرق
&
من كتابنا: السلطان في تفسير القرآن
&
التعليقات