لا يمكن للإنسان الذي جعل فارقاً بينه وبين القيم الإيمانية أن يميّز بين الأشياء إلا من خلال النظرة المادية وذلك بسبب الأغلال التي لا يريد التخلص منها قياساً إلى التباين الذي يرجع به إلى كبر الأحجام ظناً منه أنها تتسم بالفائدة دون غيرها من الأشياء المحيطة به والتي لا يجد صورها ضمن الإدراكات الباطنة على الرغم من ظهورها المستبين، ولهذا فإن النبي إبراهيم (عليه السلام) لما أراد أن يبطل الاعتقاد السائد عند قومه اتخذ طريقة التعريض من الأصغر وهو الكوكب مروراً بالقمر ثم انتهى إلى الشمس، كما أشار إلى ذلك تعالى بقوله: (فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين... فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين... فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون) الأنعام 76- 78. وعند تأمل هذه الآيات يظهر أن ما قام به إبراهيم يدلل على مدى تعلق قومه بعبادة الكواكب التي جعلوا لها تماثيل تعبد من دون الله تعالى، وهذا الأمر يكاد يكون هو السبب الذي كان وراء اختياره لهذا الترتيب من الأصغر إلى الأكبر لأجل أن يبين لهم عدم صحة اعتقادهم في تفضيل الأشياء نظراً إلى كبر حجمها ولهذا تراه في موقف آخر يقوم بنفس الفعل معرضّاً بجهلهم، كما في قوله تعالى: (قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون) الأنبياء 63.

&وهذا هو النهج السليم الذي يشير إليه القرآن الكريم في مناسبات كثيرة كونه لا يفاضل بين الأعمال نظراً إلى كبر حجمها أو كثرتها وإنما يراعي النتائج التي تحصل جراء تلك الأعمال، كما في قوله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره... ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره) الزلزلة 7- 8. ولو اتخذ الإنسان هذا النهج لما تعلق في المؤثرات المادية دون أن يغفل الجهة المنفكة في السرد، وهذا ما نستطيع الوصول إليه من خلال وصايا لقمان لابنه، كما في قوله تعالى: (يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير) لقمان 16. هذا فضلاً عما يذكرنا به الحق سبحانه في تقديم صغائر الأشياء التي يحيط بها علمه، كما في قوله: (وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين) يونس 61. وقريب منه.. سبأ 3-22. وكذا قوله: (وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين) الأنبياء 47. وقوله تعالى: (ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) الأنعام 59. وعند تأملنا للآيات آنفة الذكر مجتمعة نستطيع الإحاطة بكثير من المصاديق التي تبين الغرض من وراء هذا النهج الذي أشرنا إليه في معرض حديثنا.

من هنا نجد أن القرآن الكريم يحث الإنسان على أن يكتب الأشياء الصغيرة قبل الكبيرة لأجل أن يباعد بينه وبين النظرة السائدة التي تدعو إلى عدم الاهتمام بتلك الأشياء، كما في قوله تعالى: (ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً) البقرة 282. وبناءً على هذا ينتقل بنا القرآن الكريم إلى جانب آخر يتمثل في ما يسجله الحفظة في الزبر دون أن يغفلوا صغائر الأمور، كما في قوله تعالى: (وكل صغير وكبير مستطر) القمر 53. ولهذا عندما تعرض الأعمال يوم القيامة على المجرمين الذين لم يعبأوا بصغائر الأمور في حياتهم الدنيا ترى الغرابة ظاهرة في كلامهم، وقد بين الله تعالى ذلك في قوله: (ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها) الكهف 49. وهذه المفاجأة التي جعلتهم يبدون غرابتهم من الصغيرة قبل الكبيرة ما هي إلا ملكة راسخة في نفوسهم التي اقترنت بحب المادة في هذه الدنيا حتى أصبحت ملازمة لهم في الدار الآخرة وإن شئت فقل في يوم القيامة، وهذا هو نفس الاتجاه الذي اتخذه المشركون في تلقي الأمثال بل وفي جميع آيات القرآن الكريم حتى أصبح تأثيرها ظاهراً في أفكارهم مما أدّى إلى استكبارهم وعتوهم فضلاً عن تلقين أتباعهم هذا النهج، حتى ظن أكثرهم أن القرآن ليس من الله، ولو كان من الله حسب زعمهم لما ذكرت فيه المخلوقات الصغيرة، كالذباب... العنكبوت... النحل... والنمل... إلخ. باعتبار أن هذه المخلوقات لا يمكن أن تذكر في كتاب نازل من السماء وذلك نظراً إلى حقارتها وصغرها قياساً إلى الأشياء العظيمة والكبيرة، ومن هنا خاطبهم الله تعالى بقوله: (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها فاما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاً يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضل به إلا الفاسقين... الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون) البقرة 26- 27.

وعند تأمل هذا النهج يظهر أن هناك نقلة نوعية وفرقاً كبيراً بين الآيات التي تحداهم فيها القرآن الكريم من أن يأتوا بسورة من مثله وبين هذا المثل الذي يبين فيه سبحانه أنه: (لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها) وهذا يدل على مدى صعوبة تلك المهلة التي تلقوا فيها التحدي الذي كشف عجزهم مقابل سورة واحدة وإن كانت أقصر السور، وهذا ما أدّى بهم إلى الاستهزاء والسخرية من القرآن الذي أشار إلى المخلوقات الصغيرة في أمثاله، ومن هنا كان الرد عليهم بهذا المثل الذي بين فيه الحق سبحانه من أن الحياء لا يمنعه من ضرب الأمثال بمخلوقاته سواء كانت صغيرة أم كبيرة، ولهذا قال: (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما) و ما إبهامية تفيد العموم عند اقترانها بالنكرة... والمعنى أي مثل. قوله تعالى: (بعوضة فما فوقها) يعني فما فوقها في الكبر كما قدرنا أو فما دونها إذا فسرنا الفوقية من أسماء الأضداد، وهذا الاحتمال وارد وقد نزل به القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: (إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى) طه 15. أي أكاد أظهرها بمعنى سأجعل لها علامات، ومنه قوله تعالى: (ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق) ص 7. والآخرة هنا بمعنى الأولى، وكذا قوله: (وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً) الكهف 79. أي وكان أمامهم ملك... وأكثر من ذلك بياناً ما ذكره تعالى بقوله: (ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون) المؤمنون 100.&

قوله تعالى: (فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم) بمعنى أنهم يتلقون المثل بكل طمأنينة وتسليم دون البحث وراء الألفاظ التي اتخذها المشركون للسخرية والتقليل من الكلام البليغ. قوله تعالى: (وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاً) أي ماذا أراد الله من ضرب الأمثال بهذه الأشياء الحقيرة. من هنا يظهر الفرق في اختلاف القابل في تلقي الأمثال، علماً أن هذا النهج لا يقف عند الأمثال فحسب بل يتعدى إلى جميع القرآن، كما في قوله تعالى: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا) الإسراء 82. وكذلك قوله: (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون... وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون) التوبة 124- 125. وقريب منه المدثر 31. وكذا المائدة 64- 68. وعند جمع هذه المتفرقات نحصل على قضية قائمة بذاتها تبين مدى اختلاف القابل في تلقي القرآن الكريم. ولهذا ذيل سبحانه المثل بقوله: (يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضل به إلا الفاسقين) ومعنى الفسق الخروج... أي الذين خرجوا عن نهج الله سبحانه، ومن هنا نعلم أن الله تعالى لا يضل الناس ابتداءً وإنما يضلهم مجازاة على أعمالهم، وهذه أيضاً قضية قائمة بذاتها في القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين) الصف 5. وكذا قوله: (كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب) غافر 34. من هنا تظهر النكتة في قوله تعالى: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) البقرة 2. وهناك آيات كثيرة تبين معنى زيادة الهدى، كما في قوله تعالى: (والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم) القتال 17. وكذا قوله: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) العنكبوت 69.&

قوله تعالى: (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون) البقرة 27. بمنزلة التفسير للفاسقين، وفي السياق ما يدل على عموم العهد دون تفصيل المصاديق، وهذا يدل على نقضهم لمطلق العهد الذي ذكر في القرآن الكريم، والذي وصى به الحق سبحانه كما في قوله: (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً) الإسراء 34. وبناءً على هذا مدح الذين يوفون بذلك، كما في قوله: (والموفون بعهدهم إذا عاهدوا) البقرة 177. وأخيراً قابل الوفاء بالعهد وفاءً منه، كما في قوله: (وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم) البقرة 40. فإن قيل: قوله تعالى: (يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً) البقرة 26. يدل في ظاهره على أن الكثرة متساوية بين الطرفين وهذا خلاف الواقع؟ أقول: قوله تعالى: (كثيراً) لا يراد منه الأكثر المتعارف عليه وإنما فيه إشارة إلى الجمع الكبير وإن اختلفت الأعداد التي تدخل فيه، وهذا كقوله تعالى: (وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء) النساء 1. فإن قيل: أشار هنا إلى كثرة الرجال دون النساء؟ أقول: الكثرة متحققة في الطرفين... أي ونساء كثيرات وحذف الثاني لدلالة الأول عليه، والدليل في نفس الآية في قوله: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) النساء 1. أي والأرحام التي تساءلون بها، وقد يحذف الأول لدلالة الثاني عليه، كما في قوله تعالى: (إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد) ق 17.&

&

من كتابنا: السلطان في تفسير القرآن

&