بالامس خرجت وحدة المعلومات الاقتصادية بالايكونومستThe Economist Intelligence Unit ، وهي مؤسسة بحثية بريطانية ذائعة الصيت بتقدير استراتيجي مفاده أن انتخاب الجمهوري دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية يعتبر واحداً من أكبر 10 أخطار تهدد العالم خلال الفترة المقبلة!
ما يهمني في هذا الموضوع ليس فوز ترامب أو هزيمته بل التقدير الاستراتيجي الصادر عن وحدة تقصي المعلومات بالايكونومست، وهي تحتل مكان عالمية مرموقة في مجالها، ولذا فمن الضروري التعامل بجدية ـ من الناحية البحثية على الأقل ـ مع تقديرها الخاص بأن وصول دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة سيشكل خطرا عالميا بنفس مستوى الخطر الذى يمثله الارهاب الذى يزعزع الاقتصاد العالمى.
لم تكن تصريحات ترامب ضد المسلمين هي المحفز الأوحد أو الأهم لتصنيفه كخطر عالمي داهم بهذا الحجم، بل لآرائه الأخرى، لاسيما على الصعيد الاقتصادي، الذي هو بالاساس موضع اهتمام "ايكونومست"، التي تنظر بقلق إلى تصريحاته ضد الصين مشيرة إلى خطر قيام حرب تجارية محتملة بسبب عدائه الظاهر للمكسيك والصين، وقالت: "إن ترامب عدائي بشكل استثنائى إزاء التجارة الحرة بما فيها اتفاق نافتا (اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية)، واتهم الصين مرارا وتكرارا بأنها تتلاعب بالعملة".
لم يقف الجدل حول المرشح الجمهوري للرئاسة الأمريكية دونالد ترامب على وحدة "الايكونومست" بطبيعة الحال، بل لفت انتباهي تحذير للبروفيسور بجامعة هافارد دنيال الآن في مقال له بصحيفة "واشنطن بوست" من صعود ترامب معتبراً إياه أشبه بصعود الزعيم النازي ادولف هتلر، ما يعكس مخاوف حقيقية لدى نخبة كبيرة من الأمريكيين بالدرجة الأولى، ومن ثم العالم أجمع شرقاً وغرباً إزاء سياسات المرشح الجمهوري، الذي كان ترشحه في بداية الأمر سوى مادة خفيفة لمعدي برامج "التوك شو" الأمريكية.
لا يمل خبراء السياسة والباحثين الاستراتيجيين من القول بأن الولايات المتحدة دولة عظمى تديرها المؤسسات، وسياساتها الخارجية لا تصنع من خلال الرئيس فقط ولا تدار عبر أروقة البيت الأبيض بمفرده، وهناك أدبيات لا تحصى تناقش هذه القضية وتتعرض لها باستضافة، ولكن ما يثير دهشتي أن كل هذه المعطيات تتساقط واحدة تلو الأخرى في مواجهة اختبار سياسي مهم مثل صعود المرشح الجمهوري دونالد ترامب وتنامي فرصه للفوز بترشيح الجمهوريين له في انتخابات الرئاسة الأمريكية المقبلة.
تأتي هذه هذه المخاوف والتحذيرات أيضا رغم التوقعات القائلة بصعوبة فوز ترامب في مواجهة المرشحة المحتملة للحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون، التي يتوقع لها الكثيرون أن تكون أول سيدة أمريكية تجلس على كرسي الرئاسة، ويبدو حماس شريحة عريضة من النخب الأمريكية لها واضحاً، كما إن هذه المخاوف لا يحد منها أيضا وجود "قيود" على صناعة القرارات الكبرى الخاصة بالسياسة الخارجية الأمريكية، ومنها الكونجرس، الذي يمكن أن يحد من سلطة الرئيس، سواء كان جمهورياً أو ديمقراطياُ، في حال استشعر النواب خطورة قراراته وسياساته على الأمن القومي والمصالح الاستراتيجية الأمريكية.
لاشك أن ظهور دونالد ترامب على المسرح السياسي الأمريكي يبدو بديهياً في ظل الظروف التي عانتها السياسة الأمريكية في السنوات التي تلت اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر 2001، فالمخاوف قد تزايدت سواء بفعل الارهاب أو بفعل الأزمة المالية، التي لا يزال الاقتصاد الأمريكي يعاني تأثيراتها منذ اندلاعها في نهاية عام 2007، لذا فإن ظهور زعيم سياسي شعبوي معاد للآخر ومؤيد للانعزالية، مسألة مفهومة، لاسيما أن دعاة الانعزالية الأمريكية لا يقتصرون على ترامب، بل يمثلون تياراً عريضاً في السياسة الأمريكية. فدعاة الانعزالية لهم مكان دائم على المسرح السياسي الأمريكي منذ نشأة البلاد، فالجدل دائم ومحتدم بين الانعزالية والامبريالية الجديدة ودعاة الفكر الامبراطوري، فالفكر الانعزالي متجذر في التاريخ الأمريكي منذ مبدأ مونرو الشهير الخاص بالانعزال عن أوروبا القديمة، وهو المبدأ الذي انطلق منه تيار الانعزالية في السياسة الأمريكية طيلة تاريخها.
البعض يقول أن وصول ترامب إلى البيت الأبيض ليس مستبعداً، وهذا صحيح، والأمر يخضع بالأخيرة لحسابات معقدة، بعضها يتعلق بالمواقف المؤسسية، وبعضها الآخر يتعلق باللعبة الانتخابية وما يرتبط بها من آلة دعائية جبارة قادرة على توجيه الرأي العام الأمريكي وتشكيل اتجاهاته وتغيير قناعاته، ولكن ينبغي الانتباه إلى أن آراء ترامب التي تثير اعجاب شريحة من الأمريكيين حالياً هي ذاتها التي يمكن أن تستخدم في الأشهر المقبلة لاثارة مخاوف الناخبين وقلقهم، ولاسيما مايتعلق بمواقف المرشح الجمهوري حيال اتفاقات التبادل التجاري الحر، وتأييده للانعزالية ورفضه اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية ومطالبته بالغاء اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادىء المبرم مع عدد من دول آسيا، هذا الرفض قد يكون الحبل الذي يلتف حول فرص نجاحه في الانتخابات الرئاسية المقبلة جراء تعارض هذه الآراء مع أهم وأخطر ركائز القوة الأمريكية في القرن الحادي والعشرين، وهي فكرة العولمة، التي هي تيار أمريكي بالاساس، يستهدف "نمذجة" العالم و "أمركته" وفق القيم والتقاليد الأمريكية، التي تمثل قوة ناعمة هائلة التأثير، واستثمرت فيها الولايات المتحدة جل جهدها طيلة السنوات والعقود الأخيرة، وقد لا يكون هناك أي فرص للتراجع عن كل ما تحقق على هذا الصعيد من مكاسب، وإلا فإن ما ستخليه الولايات المتحدة من مساحات نفوذ وسيطرة ثقافية واقتصادية سيذهب مباشرة للتنين الصيني الصاعد!!.
باعتقادي أن "الكابوس" ـ كما يصفه بعض الكتاب والخبراء ـ من الصعب أن يتحول إلى حقيقة طالما كان الاقتصاد في بؤرة اللعبة الانتخابية، فالناخب الأمريكي لم يكد يخرج من تبعات الأزمة المالية، والأرجح أن قصة صعود ترامب سياسياً ستبقى درساً مهماً لباحثي الرأي العام وفنون الدعاية، فالرجل استفاد بشكل ذكي من سياسات الرؤساء الأمريكيين السابقين والرئيس الحالي باراك أوباما، الذي يتهم بالانسحابية والضعف والتردد والسماح لأحداث دولية بالخروج عن السيطرة، ولكن أفكار ترامب داعية بناء الحوائط مع الآخرين، قد تجعل بالمقابل من أوباما بطلاً اسطورياً في التاريخ الأمريكي.