&
رائحة المؤامرة الكبرى على المشروع اللينيني في الثورة الإشتراكية العالمية، فاحت قوية من مؤتمر ميونخ الرباعي الذي أعلن تحالف الامبريالية العالمية والفاشية الأوروبية في سبتمبر 1938، وطبعاً لم يكن هذا التحالف إلا ضد العدو المشترك وهو الثورة الإشتراكية العالمية التي جسدتها دولة العمال الأولى في التاريخ وهي الإتحاد السوفياتي . ذلك ما رتب على ستالين أن يتدبر الأمر حيث كانت المهمة الأولى التي كلفه بها لينين قبل رحيله هي الحفاظ على أمن الثورة وسلامة تطورها، خاصة وهو من كان قد خاض جميع المعارك التي خاضها الشيوعيون البلاشفة في الحرب الأهلية وحروب التدخل دفاعاً عن الثورة وكبدتهم خسارة أرواح مئات الألوف من خيرة الشيوعيين حيث كان التحدي في جميع هذه المعارك هو .. "أن تكون أو لا تكون" . ومثله كان التحدي بعد تنامي الفاشية والنازية في أوروبا وتحالف الرأسمالية الإمبريالية مع الفاشية والنازية في مؤتمر ميونخ سبتمبر 1938 .
في مواجهة تلك المؤامرة الكبرى على الدولة السوفياتية اتخذ ستالين سياسات جديدة تبدّى قرنها في المؤتمر العام الثامن عشر للحزب الشيوعي في مارس 1939 إذ خطب ستالين في افتتاح المؤتمر يقول .. " قوى القمع لقواتنا المسلحة وأجهزة المخابرات لن تعمل بعد اليوم داخل الوطن وسيقتصر عملها ضد أعدائنا في الخارج " . &هذا يشير إلى أن الحزب كان قد قرر وقف العمل بمبدأ الصراع الطبقي الذي كان شغله الشاغل قبلئذٍ تمهيداً لمواجهة العدوان النازي بحرب وطنية تشارك فيها جميع طبقات الشعب بنفس الحماس دفاعاً عن الوطن ؛ كما كشف ستالين في ذلك الخطاب أن الحزب قرر أيضاً تطوير وتعظيم القوى المسلحة وهو ما كان مرفوضاً من قبل .&
وندد الخطاب بسياسة عدم التدخل (Nonintervention) التي أعلنتها الدول الغربية، بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة، وكانت حجتها في رفض التحالف الجماعي الذي إقترحه الاتحاد السوفياتي ضد الغول النازي وهو ما لم يكن سوى تشجيع هتلر على غزو الاتحاد السوفياتي وإنهاء الثورة الاشتراكية ومفاعيلها الخطرة على النظام الرأسمالي الإمبريالي . وكان ستالين حتى في مارس آذار 1939 قد أكد الفشل الذريع لتلك السياسة وأن العدوانية الهتلرية ستتوجه إلى الغرب قبل الشرق . وتوعد ستالين الألمان إذا ما جنً جنونهم وجاءوا إلى الاتحاد السوفياتي فلن يجدوا إلا قيود المجانين (Straitjackets) يُقيدون بها وتطرحهم أرضاً .
&
كان أمن وسلامة الاتحاد السوفياتي هما قضية الشيوعيين الأساسية التي تتفرع منها كل المسائل الإشتراكية الأخرى وهو كما أسلفنا كان الوصية الوحيدة ألتي أوصى بها لينين ستالين . ولما كان ستالين على علم بأن هتلر سينثني إلى الشرق بعد أن يصفي حساباته مع الغرب وينتقم وموسوليني من بريطانيا وفرنسا بسبب ما لحق بألمانيا وإيطاليا من إجحاف في معاهدة فرساي الاستعمارية، ولما وجد ستالين نفسه محاصرا في قرنة لا إفلات منها سوى مفاوضة هتلر، إذاك أرسل رئيس الوزراء فياتشسلاف مولوتوف إلى برلين حيث تم توقيع اتفاقية عدم اعتداء بين الطرفين في 23 أوغست آب 1939 وهي اتفاقية (مولوتوف – روبنتروب) ـ يواكيم روبنتروب هو وزير خارجية هتلر . كان الطرفان بحاجة إلى تلك الإتفاقية الخادعة الملغومة ؛ فقد احتاج هتلر تلك الاتفاقية من أجل أن يحتل بولندا حيث لا يستطيع شن حرب على الاتحاد السوفياتي بغير احتلال بولندا، كما من شأن تلك الاتفاقية أن تهدئ روع السوفيات فلا تأخذهم حمى الاستعداد للحرب، وهو ما نجح فيه أيما نجاح . واحتاج ستالين تلك الاتفاقية كيما يكون لديه ثلاث سنوات من الحياة السلمية، كما كان يأمل، يستكمل خلالها الاستعداد للحرب ؛ بالإضافة إلى أن احتلال هتلر لبولندا كان سيشعل التناقض بين ألمانيا النازية من جهة وبريطانيا وفرنسا الضامنتين لاستقلال بولندا من جهة أخرى . وفعلاً احتل هتلر بولندا في الأول من سبتمبر 1939 وفي الثالث منه أعلنت كل من بريطاميا وفرنسا الحرب على ألمانيا لكنها كانت حرباً صوتية فقط (Phoney War) دون بارود . كان ستالين على ثقة تامة بأن هتلر سيعتدي على الاتحاد السوفياتي لكن ليس قبل نهاية ديسمبر 1941 أو قبل احتلال بريطانيا وقد حاصرها بعد هزيمتها في دنكرك واستمر يقصف لندن وموانئ بريطانيا طيلة العام (يونيو 1940 ـ يونيو1941) .
&
رغم الحيطة والحذر اللذين طبعا كل تصرفات ستالين وأعماله إلا أن ذلك خانه أفظع خيانة وقد حاذر بإفراط من إدعاءات المخابرات البريطانية التي كانت تشيع الأخبار التي تقول أن هتلر يحضر للإعتداء على الاتحاد السوفياتي ولن يحترم اتفاقية عدم الإعتداء ؛ كانت بريطانيا تروج تلك الإشاعات لأنها متضررة من اتفاقية (مولوتوف – روبنتروب) . كان خطأ ستالين القاتل هو أنه لم يصدق برقية الصحفي الألماني من طوكيو ريتشارد زورغه التي أبرقها إلى المخابرات السوفياتية قبل العدوان بأيام قليلة وكلفته حياته وقالت أن العدوان الهتلري على الإتحاد السوفياتي سيكون في 22 يونيو القريب . لم يصدقها حيث ظنها متأثرة بدعاية المخابرات البريطانية .
&
في أولى ساعات 22 يونيو 1941 انتهك هتلر اتفاقية عدم الإعتداء وأدخل قواته خلسة إلى الأراضي السوفياتية مخبوءة في عربات القطار المخصص لنقل الفحم من روسيا إلى ألمانيا، وحضر في الصباح الباكر سفير ألمانيا إلى الكرملن يعلن الحرب على الإتحاد السوفياتي فكان رد الفعل الأولي لستالين مستغرباً يقول .. " المجنون حسبته ألا يعتدي قبل نهاية العام 41 !!" . وكان أبضاً استقالة يواكيم روبنتروب وزير خارجية هتلر احتجاجاً على انتهاك الاتفاقية .
خطيئة ستالين الكبرى هي أنه كان قد اعتمد على اتفاقية "مولوتوف ـ روبنتروب" أكثر مما ينبغي الأمر الذي تسبب بتكبيد الاتحاد السوفياتي خسائر جسيمة تفوق كل وصف وكان لها الأثر الحاسم في انهيار النظام الاشتراكي في نهاية المطاف . وكان أول من نسب تلك الخطيئة لستالين شخصياً هو ستالين نفسه حين حكم بالتنحي على نفسه وكلف مولوتوف بإعلان الحرب وكان ذلك محل استغراب وتساؤل السوفياتيين . &قرر ستالين التنحي عن الأمانة العامة للحزب ورئاسة مجلس الدولة عقاباً لشخصه على خطئه الفظيع في رصد عدوانية هتلر ولم يثنه عن قرار التنحي الرجاء الحار والجهد الجهيد لأعضاء المكتب السياسي للحزب إلا بعد أن أكدوا له أن الاتحاد السوفياتي سيخسر الحرب بدون قيادته ـ ليس من حق السوفييت أن يخفوا هذا الأمر وهو الدليل القاطع على جوهر شخصية ستالين البولشفية وأبرز خطوطها وهو إنكار الذات المطلق وفيه لم يجاره أحد آخر .&
الهزائم المتلاحقة التي لحقت بالجيوش السوفياتية خلال الشهور الأربعة الأولى للحرب عزاها المراقبون لعنصر المفاجأة وعدم الاستعداد للحرب من الجانب السوفياتي، بينما عزاها ستالين لفقر العسكر السوفيات في فنون الحرب كما صرح بذلك إلى مبعوث الرئيس الأميركي أفريل هاريمان في سبتمبر 1941 .
فيما يخص إدارة الحرب لا يمكن تجاوز ما كتبه المارشال جيورجي جوكوف وهو القائد الأبرز في معارك الحرب العالمية الثانية الكبرى وفي فنون الحرب وقيادة المعارك على الصعيد العالمي ، ما كتبه يصف إدارة ستالين للحرب ضد ألمانيا يقول .. " وجه الجنراليسمو ستالين كل حركة واتخذ كل قرار في إدارة الحرب، إنه العبقري الأعظم والأكثر حكمة من كافة القادة العسكريين الذين مروا عبر التاريخ " . أدار ستالين الحرب حسب تاكتيك ثابت يتمثل بالتآكل التدريجي المستمر دون انقطاع لقوى العدوان النازي الكبيرة . ففي معركة كييف اقترح جوكوف على ستالين الانسحاب من كييف دون قتال وهو ما أثار غضب ستالين ورد على جوكوف صارخاً .. " أنت مجنون ! تريدنا أن نسلم أراضي سوفياتية للعدو دون قتال !! أغرب عن وجهي !! " . &قاتل السوفيات دفاعاً عن كييف وتكلفوا خسائر كبيرة كما توقع جوكوف غير أن ستالين كرس مبدأ الدفاع عن كل شبر من الأراضي السوفياتية وهو ما انتهى بتآكل قوى العدوان الهتلري حتى الهزيمة والاستسلام في 8 مايو أيار 1945 .
في عشية الذكرى الرابعة والعشرين لثورة أكتوبر اجتمعت اللجنة المركزية في موسكو يحاصرها النازيون من ثلاث جهات وخطب فيهم ستالين يقول .. " أرادها هتلر حرب إبادة فليتلقَ إذاً ! " . وفي الصباح التالي خطب مستعرضا فيالق العسكر في الساحة الحمراء مؤكداً للسوفياتيين .. " في العام 1918 حين كان ثلاثة أرباع بلادنا محتلاً من قبل جيوش أربع عشرة دولة أجنبية وحين لم يكن لدينا جيش ولا سلاح ولا خبز انتصرنا على جميع الغزاة متسلحين بالروح اللينينية، اليوم ونحن أفضل حالاً سنهزم الغزاة متسلحين أيضاً بالروح اللينينية " .
في 29 سبتمبر 1941 حين كانت موسكو مطوقة من ثلاث جهات بأكثر من مليوني جندي نازي مسلحين بأحدث الأسلحة وصل إلى موسكو مبعوث الرئيس الأميركي روزفلت أفريل هاريمان ليستقصي أحوال الاتحاد السوفياتي السيئة آنذاك، فكان أن ذهل هاريمان عندما قال له ستالين أن الجيش الأحمر سيحارب النازيين عند نهر الدنيبر في الربيع القادم بعيداً عن موسكو أكثر من ألف ميل إلى الغرب . لا الغربيون ولا عامة السوفياتيين اعتقدوا بإمكانية انتصار الإتحاد السوفياتي على ألمانيا النازية بعد أن لم تصمد قوات فرنسا وبريطانيا الإمبراطوريتين العظميين مجتمعتين أمام النازي لأكثر من أسابيع معدودة . ستالين وحده كان الواثق من انتصار الاتحاد السوفياتي لأنه وحده كان يدرك القدرات الخلاقة الهائلة للنظام الإشتراكي .
في 15 أكتوير 1941 قرر الحزب إخلاء موسكو من مؤسسات الدولة والحزب . وحين علم سكان موسكو بأمر الإخلاء هبوا محتشدين يرحلون عن موسكو إلى الشرق، لكنهم عندما علموا أن ستالين لن يغادر موسكو توقفوا عن الرحيل لإيمانهم أن موسكو لن تسقط طالما فيها ستالين . لقد كتب تشيرتشل عن ثقة السوفياتيين بقائدهم ستالين ثقة لم يحظ بها قائد في التاريخ إذ كان الشعار العام للمتطوعين إلى الحرب يقول .. " من أجل الوطن من أجل ستالين " ؛ وعندما ارتقت الفدائية إبنة الثامنة عشرة " زويا " أعواد المشنقة في 29 نوفمبر 1941 صاحت بالنازيين حولها تقول .. " سنسحقكم بقيادة ستالين " .
&
(يتبع)
&