&
&
خرج لينين من المؤتمر العام العاشر للحزب الشيوعي في مارس آذار 1921 بانطباعات سيئة تدعو إلى الإحباط وقد سادت المؤتمر فوضى عارمة بفعل اعتراضات تروتسكي وكتلته اليسارية التي ضمت الفوضويين والمناشفة سابقاً ؛ وما زاد من إحباطه هو أن روسيا كانت في العام 1921 ترزح تحت أزمة اقتصادية مستفحلة، فثمان سنوات من الحروب الشاملة المتواصلة تركت أرض روسيا قفراً بلقعاً وشعوب روسيا تبيت على الطوى بتعبير لينين، وقرار المؤتمر بتطبيق الاشتراكية في مثل ذلك القفر لم يكن أمراً عملياً وذا فعالية تنموية وهو لم يكن قراراً خيارياً بعد سحق البورجواز الدينامية الرأسمالية وقيام دولة دكتاتورية البروليتاريا تلقائياً، كما أن المناقشات داخل المؤتمر عكست بنية هشة للحزب ليست بنية حزب شيوعي بالمعايير اللينينية كما كان قد رسمها ودافع عنها لينين منذ المؤتمر العام الثاني للحزب في العام 1903 . وصل الإحباط عند لينين إلى حد جعله راغباً في الاستقالة من الحزب وقد رأى أن قادة الحزب ليسوا ماركسيين .
كان علاج لينين للأزمة الاقتصادية يتمثل بالخطة الاقتصادية الجديدة (New Economic Plan) التي بدأ تطبيقها بعد المؤتمر في العام 1921 وقد سمحت تلك الخطة لبعض المشاريع الرأسمالية بالعمل في روسيا، وبالأعمال الفردية المهنية، كما سمحت للفلاحين بالتصرف بمحاصيلهم بعد الإيفاء بالضرائب المستحقة . وحذر لينين في الفذلكة التي شرحت مبررات الخطة الاقتصادية الجديدة من أن البعض يمكن أن يصفها برأسمالية الدولة أما حقيقتها فهي مشاريع محدودة تنتهج النهج الرأسمالي لكنها تحت سيطرة دولة دكتاتورية البروليتاريا ؛ وفيها حذر لينين الشيوعيين من أن التعايش طويلاً مع الخطة سيحمل مخاطر فقدان الثورة ولذلك يتوجب أن يتعلم الشيوعيون على إدارة المشاريع الاقتصادية بنتائج إيجابية على الاقتصاد الوطني للخلوص من الخطة في أقصر وقت ممكن ـ يسيء اليوم نقاد الإشتراكية السوفياتية فهم فحوى وأهداف " الخطة الإقتصادية الجديدة " (NEP) ويوظفونها في غير وظيفتها .
فيما خص بنية الحزب فقد عمل لينين على اتخاذ المؤتمر العام العاشر للحزب قراراً يمنع أية تكتلات في الحزب ورأى تلو المؤتمر أن البورجوازية الوضيعة وكما كان قد توقع سابقاً قد تسللت بأعداد كبيرة إلى صفوف الحزب، ولذلك طالب بطرد 100 ألف عضواً من الحزب لكن أمانة الحزب التنظيمية لم تطرد أكثر من 20 ألفاً ـ منهم زوجة ستالين التي أحجمت عن تعريف نفسها كزوجة ستالين ـ وكان لينين قد اشترط على الحزب الشيوعي أن يقوم بتطهير صفوفه من عناصر البورجوازية الوضيعة بين فترة وأخرى وإلا فلن يقبل عضواً في الأممية الشيوعية . وفي رسائله إلى المؤتمر الثالث عشر للحزب، وكان قد أقعده المرض وحال دون مشاركته في المؤتمر، لم يستطع لينين أن يسكت على عيوب في قادة الحزب فنبه المؤتمر إلى لابلشفية تروتسكي وتضخم أناه الذاتيه وانصرافه للشؤون الإدارية، وذكر القيادة بخيانة زينوفييف وكامينيف لانتفاضة أكتوبر 1917 حين أفشيا للبوليس ساعة الصفر للإنتفاضة مستهدفين إعتقال لينين والحؤول دون قيام الانتفاضة ؛ كما انتقد في إحدى رسائله فظاظة ستالين وقال أنه لا يجوز أن يكون الأمين العام بصورة خاصة فظاً، وتخوف من أن ستالين لن يحسن ربما استخدام الصلاحيات الواسعة التي باتت لديه وأوصى لذلك أن يبحث أعضاء القيادة في تبديل ستالين بشخص آخر لا يختلف عن ستالين بكل شيء إلا بالفظاظة . تمت قراءة جميع رسائل لينين على المؤتمر وقرر المؤتمر الإحتفاظ بالرسالة التي تتحدث عن عيوب القادة في سرية مطلقة .
في أول جلسة عقدتها القيادة بعد رحيل لينين تطرق أحد الأعضاء إلى تلك الرسالة السرية المنددة بفظاظة ستالين فما كان من ستالين في الحال إلا أن قدم استقالته مؤكدا على أنه لن يكون إلا فظاً مع أعداء الثورة لكن القيادة رفضت الإستقالة& وأعادت تسمية ستالين بالإجماع أميناً عاماً للحزب بحضور تروتسكي وزينوفييف وكامينيف الذين صوتوا لصالح ستالين رغم أنهم خصومه التقليديون
وأوصى لينين في رسائله لأن يعنى الحزب عناية خاصة بتلاحم التحالف بين العمال والفلاحين لأن الثورة قامت أصلاً على تينك الطبقتين فأي عبث بهذا التحالف سيكون خطراً قاتلاً للثورة .
فيما بعد رحيل لينين في يناير 1924 بدأ يبرز في الحزب تكتلان بالرغم من قرار المؤتمر العاشر بمنع التكتلات، كتلة تروتسكي اليسارية وكتلة بوخارين اليمينية . انتصر بوخارين للفلاحين ورفع شعاراً يقول .. "أيها الفلاحون اغتنوا بأنفسكم" بمعنى أن يستقل الفلاحون بشؤون إنتاجهم، أما شعار تروتسكي التاريخي فهو "الفلاحون أعداء الاشتراكية دائماً وأبداً" . التكتلان ضد النهج اللينيني والبلشفية اللينينية التي تقوم على التعاون بين طبقتي العمال والفلاحين في إنجاز الثورة الإشتراكية وكان هذا موضوع آخر رسالة كتبها لينين قبل أن يفارق الحياة ؛ وضد النهج اللينيني الذي قطع بلاشرعية التكتلات في الحزب .
ينبثق أصلاً كل تكتل في الحزب من جنوح إلى معارضة السياسة العامة للحزب . غير أن تروتسكي جنح بعيداً في معارضة الحزب حتى بات يكتب معارضاً سياسات الحزب في "البرافدا" الجريدة الناطقة بلسان الحزب فكان أن التف حول تروتسكي بقايا المناشفة والفوضويون وأعداء الاشتراكية وشكل هؤلاء تياراً مستقلاً عن الحزب أقام مطبعة غير مرخصة في موسكو تطبع مطبوعات معادية للحزب . حتى كان أن وصل الأمر لأن ينظم تروتسكي مظاهرة في لينينغراد بمناسبة عيد الثورة ترفع شعاراً ينادي " تسقط قيادة الحزب الشيوعي !" . لم يتوفر بعد ذلك أي متسع لاحتواء تروتسكي مما حدا بالقيادة لأن تتخذ قراراً يقضي بفصل تروتسكي من اللجنة المركزية .
منذ العام 1921 وطرد جميع الجيوش الأجنبية من كافة الأراضي السوفياتية غدا التحدي الرئيسي أمام البلاشفة هو النهوض باقتصاد البلاد لذلك كانت الخطة الاقتصادية الجديدة (NEP) التي سمحت بقيام مصانع أجنبية رأسمالية، وجمدت شروط الاقتصاد الاشتراكي على بعض الأنشطة الاقتصادية، ووظف الحزب جميع قوى الانتاج المتاحة فكان أن استعاد الاتحاد السوفياتي في العام 1926 مستوى الإنتاج لروسيا القيصرية في العام 1913 قبل الحرب وهو ما سمح للحزب الشيوعي بالتضييق على فعاليات اقتصاد "النيب" مسترشداً بتعليمات لينين ـ بالعكس مما يدعيه البعض اليوم ـ حتى انتهت كل مفاعيل النيب خلال عامين فقط .
في نوفمبر 1928 خطب ستالين في اجتماع موسع للجنة المركزية يقول .. إما أن نلحق بالدول الرأسمالية المتقدمة ونسبقها تقنياً وصناعياً وإما لن يكون أمامنا إلا الهزيمة والفناء . نحن نجحنا في بناء نظام سياسي متقدم على النظام الرأسمالي لكن هذا لن يستمر بغير قاعدة إقتصادية تعضده ـ لهذا كانت الخطة الخمسية الأولى في الاتحاد السوفياتي 1928 ـ 1932 ولأول مرة تعرف البشرية خطط التنمية الخماسية والتخطيط المركزي للإقتصاد . كانت الخطة طموحة لدرجة أن ونستون تشيرتشل صرح يقول ..إذا ما نجح هذا الحالم في الكرملين بإنجاز هذه الخطة أنا نفسي سأتحول إلى الشيوعية !& تم إنجاز الخطة بما تجاوز حدودها في أقل من أربع سنوات لكن تشيرتشل لم يتحول إلى الشيوعية . في نهاية الخطة الخماسية الثانية كانت الصحافة الأميركية تقارن طوابير الشوربة في المدن الأميركية برغد العيش في المدن السوفياتية . إزاء تلك النجاحات الاقتصادية الهائلة وعبور الإشتراكية الميسّر كما بدا، بدأت البورجوازية الوضيعة التي اعتبرها لينين العدو الرئيسي للإشتراكية في العام 1922، بدأت ترفع رأسها العدائي فجرى اغتيال القائد الشيوعي البارز سيرجي كيروف في تدبير من قبل عضوي المكتب السياسي زينوفييف وكامينيف بهدف إستعادة سلطتهما المطلقة في محافظة لينينغراد . كما بدأت قيادة الجيش تطالب باعتمادات عسكرية كبيرة لكن ستالين لم يكن يوافق على الإنفاق العسكري ويشطب المطالبات معلقاً .. كل كبيك يصرف على العسكرة يؤخر بنفس القدر بناء الاشتراكية . استمر الحال على هذا المنوال حتى العام 1937 حين نظم المارشال توخاتشوفسكي انقلاباً عسكريا ضد السلطة والحزب فتم القبض على المتآمرين قبل دقائق قليلة من تنفيذ الإنقلاب وتمت محاكمة عشرات الضباط& المتآمرين وجرى إعدامهم .
ما يجدر ذكره في هذا السياق هو أن تروتسكى إدعى أثناء محاكمته الصورية في المكسيك في العام 1937 أن خطط التصنيع السريع الناجحة في الاتحاد السوفياتي إنما هي أصلاً من تخطيطه كان ستالين قد سرقها من أرشيفه !! لكن رئيس المحكمة الفيلسوف الأميركي جون ديوي (John Dewey)& لم يسأله .. لماذا أنت إذاً تعارض ستالين طالما أنه ينفذ سياساتك ؛ الأولى بك أن تدعمه وتصطف خلفه !؟
مع بداية الخطة الخسية الأولى فطن ستالين إلى أن النهوض الصناعي لا بد أن يجاريه نهوض زراعي . لذلك أطلق في العام 1929 حملة قوية شاملة لتحويل الزراعة الفردية في الاتحاد السوفياتي إلى زراعة تعاونية تقوم أساساً على تعويم ملكية الأرض الزواعية . تلك النقلة النوعية في عبور الاشتراكية استطاع أن ينجزها الحزب خلال سنتين وهو ما كان موضع ذهول كبيرنظرا لما واجه ذلك التحول من أعداء كان لينين يتحفظ في مواجهتهم . حوالي 400 ألفاً من الفلاحين الأغنياء وعائلاتهم الذي عارضوا الزراعة التعاونية بالقوة تم تهجيرهم إلى العمل في سيبيريا .
(يتبع)
&
التعليقات