&"منذ أن انكببت على قراءة أعمال مارك توين، صار فهمي لأمريكا أفضل من ذي قبل". هذا ما صرّح به الرّئيس الأمريكي باراك أوباما عند صدور المجّلد ألأوّل لسيرة الكاتب الأمريكيّ الشهير مارك توين(1835-1910). ولعل الرئيس الأمريكي عبّر في هذه الجملة المختصرة والمفيدة عن رأي جلّ الأمريكيين من مختلف الطبقات والأعمار في هذا الكاتب الذي جسّد وهيوتهم على أروع وأعمق صورة. لذلك هو مثّل ولا يزال يمثّل لهم ما يمثله شكسبير بالنسبة للبريطانيين، وموليير بالنسبة للفرنسيين، ودانتي بالنسبة لليإطاليين، وغوته بالنسبة للألمان.

ورغم إنقضاء أزيد من قرن على رحيله لا يزال هذا الكاتب العبقريّ الذي ملأ الدنيا، وشغل النّاس في زمانه، وارتبط بعلاقات صداقة وثيقة مع شخصيّات سياسيّة كبيرة مثل الرؤساء روزفلت، وغرانت، وكليفلاند، حاضرا في المشهد الأدبي والثقافي في بلاده، وفي العالم. ويصف الذين اهتمّوا بسيرته أنّ الوثائق التي تركها مارك توين، والتي رسم فيها صورة لنفسه، ولحياته، وللأحداث التي عاشها، بأنّها شبيهة ب"جبال الهيمالايا" لكثرتها وتنوّعها،وتشابكها. وخلال السّنوات الأخيرة من حياته، دأب مارك توين على أن يملي على كاتبته الخاصّة يوميّا ملاحظات، وآراء عن حياته الخاصّة، وعن قراءآته، وعن أشياء أخرى كثيرة. إلاّ أنه كان من الصّعب الكتابة عن سيرته، ليس فقط وهو على قيد الحياة، وإنّما بعد مرور سنوات طويلة على وفاته، بسبب مواقفه الجريئة التي آشتهر بها، والتي كانت تحرج الكثيرين من أهل السياسة، والأدب. وكان مارك توين قد غادر المدرسة بعد وفاة والده عام 1848 وهو في الثّانية عشرة من عمره ليعمل في أحد المطابع براتب متواضع لكنه ضَمن له نوعا من الإستقرار المادّي. وفي ذلك الوقت، كانت القرى تُصدر جرائدها الخاصّة.

عند بلوغه الخامسة عشرة من عمره، شرع الفتى مارك في كتابة مقالات لمجلّة أسبوعيّة كان يشرف على تحريرها أخوه الأكبر. ومن عمله الصّحفيّ ذاك تعلّم فنّ الكتابة، كما تعرّف على أحوال الناس الذين يعيش بينهم. وفي الثّامنة عشرة من عمره، شرع مارك توين في التجّوّل عبر البلاد، متنقّلا بين المدن الكبيرة مثل نيويورك وفيلادلفيا، وواشنطن، وسان لوي. وستكون هذه الجولات، وهذه الأسفار، مليئة بالمغامرات، والتّجارب التي ستحضر في ما بعد في أغلب ما سيكتبه مارك توين من قصص وروايات، ومقالات. عند بلوغه سنّ الخامسة والعشرين ،استقرّ في "الميسيسيبي" “، ليعمل على ظهر إحدى البواخر التّجاريّة. وعند اندلاع الحرب الأهليّة عام 1861، انضمّ إلى كتيبة عسكريّة جنوبيّة غير أنه سرعان ما غادرها ليلتحق بأخيه الأكبر الذي عيّن كاتبا في محافظة نيفادا. وكانت رحلته عبر كاليفورنيا شاقّة وطويلة، خلالها عاش مغامرت جديدة عمّقت خبرته بالحياة وبالنّاس، وجعلته أكثر جرأة في مواجهة المصاعب. وفي كاليفونيا، اكتشف مارك توين المغامرين الباحثين عن الثروة، والذين يعيشون في حمّى دائمة للحصول عليها.

وفي سان فرانسيسكو التي ستصبح مدينته المفضّلة، عمل مراسلا متنقّلا لصحف واسعة الإنتشار، وسافر إلى أوروبا ليكتب العديد من التّحقيقات التي حقّقت له شهرة واسعة لدى القّراء في بلاده. وفي ما بعد سينشر تحقيقاته هذه في كتاب حمل عنوان:”رحلة الأبرياء". غير أن الشهرة الواسعة والحقيقيّة ستتحقّق له عند إصداره وهو في سنّ الأربعين روايتين هما "مغامرات توم سوير"، و"مغامرت هوكلبيري فين". وفي هذين العملين الرّائعين اللّذين لا يزالان من أفضل الكتب التي يقبل عليها القرّاء في أمريكا، أثبت مارك توين قدرته الفائقة على ابتكار لغة خاصّة به، وعلى مهارته في السّخرية اللّاذعة، وفي الدّعابة السّوداء. في الآن نفسه، نشر العديد من القصص والنّصوص التي أدان فيها مخاطر التّقدّم الصّناعي على الطبيعة، وعلى الإنسان بصفة عامّة. كما انتقد المسيحيّة بشدّة، مشهّرا بالجرائم التي ترتكب باسم الله. في السّنوات الأخيرة من حياته، واجه مارك توين متاعب مادّيّة كبيرة. وبسبب وفاة إبنته وهي في الرّابعة والعشرين من عمرها، ألمّ به حزن شديد عجّل بوفاته يوم 21 أبريل-نيسان 1910. وكان آنذاك في الرابعة والسّبعين من عمره. وقبل وفاته كان يردّد قولة أصبحت مأثورة:"لنجهد أنفسنا لكي نعيش بطريقة تجعل حتى القبّار يبكي عند دفننا!”.