لا شك ان ظهور الحركات الاسلامية، في بداية القرن العشرين، مثـّـل في حينه وعيا متطورا، مغايرا لوعي التيارات الدينية التقليدية. لكن رغم ما حققته تلك الحركات على مستوى فهم الواقع واكتشاف آلياته، ورغم مواقفها الجريئة في مقارعة الطغاة، وتضحياتها في سبيل اعلاء كلمة الاسلام، الا ان وعيها ظل مبتورا ناقصا، لم يقارب الممنوع، ولم يتحرش بالموروث، ولم يطل الثوابت الاساسية للفكر والعقيدة الدينية، ولم يرق الى مستوى النقد والمراجعة، وانما كانت وما تزال منظومتها المعرفية وانساقها الثقافية جزءا لا يتجزء من المنظومة المعرفية والانساق الثقافية للمجتمعات الاسلامية، وهي منظومات تقليدية اسطورية في كثير من مفرداتها. وبهذا الشكل بقي اللامفكر فيه والمستحيل التفكير فيه جزرا مغلقة يتجنبها الوعي، ولا يجازف في مقاربتها، فضلا عن تفكيكها او الغوص في اعماقها. كما ظلت مساحات واسعة من العقل مبهمة، غير خاضعة للمراجعة والنقد، وهو اساس تخلفها على هذا الصعيد.
ورغم احتدام الجدل حول مقولات الدين والفكر الديني، وكثرة الكلام حول المقدس وغير المقدس، الا ان الحركات الاسلامية ظلت في سبات عميق، وظل دأبها الدفاع والتبرير، في اطار خطاب ايديولجي يراهن على تأويلات لم تأخذ طريقها الى الواقع، لانها لم تقصده، لكن الحركات الاسلامية لا تعي ذلك، وتصر على تغيير الواقع لينسجم مع قراءتها المتحيزة للنص الديني. ولم تجازف في تغيير منهجها ليصار الى قراءة اخرى تنسجم مع الواقع وضروراته، لذا لم تواكب التطور الحضاري للشعوب الاسلامية (وان كان تطورا نسبيا)، لا على الصعيد الفكري، ولا على الصعيد السياسي، الذي هو حقلها الاساس، وانما انقسمت تجاهه الى حركات متطرفة اكثر اصرارا وايديولوجية وتشبثا بالتراث والماضي، وأشد رفضا للحاضر وضروراته. بينما ظلت حركات اخرى حبيسة انساقها الفكرية رغم رغبتها في مواكبة الحاضر، لكنها لم تع ِ اسباب تخلفها، ولم تجرأ على محاكمة افكارها ومتبنياتها، لانها لم تتحرر من سلطة التراث والسلف والمفاهيم التقليدية، ولم تستطع التماهي مع طروحات الحداثة السياسية كالديمقراطية، والتداول للسلمي للسلطة والمشاركة البرلمانية على اساس الاعتراف بالاخر، لا على اساس حيازة مواقع متقدمة لفرض ارائها ونظرياتها. باستثناء بعض الحركات الاسلامية في دول غير عربية مثل تركيا وماليزيا التي هي اكثر انفتاحا وتفهما للحاضر وضروراته. فبعض الحركات الاسلامية تمكنت بالفعل من دخول البرلمانات، الا انها لم تستطع العمل مع الاطراف السياسية الاخرى على اساس المشاركة في الحكم، وظلت تتحين الفرص للاعلان عن استراتيجيتها الاقصائية الرافضة للاخر بجميع تشكيلاته.
ان التطور في أي مجال يتوقف على ممارسة النقد، وقبول ما يتوصل له العقل من نتائج، سواء كانت موافقة لتوجهاته الايديولجية او مغايرة، لكن
لا يعني ذلك التخلي عن الركائز الاساسية للدين والشريعة الاسلامية، وانما يعني التخلي عن القراءات الجامدة للدين والتراث والفكر، وتجديد الفهم الديني واكتشاف مقاصد الشريعة واهدافها. وطبيعة النقد هي الشمول، التفكيك، التوغل، المحاكمة، التشكيك، المراجعة، التحرش بالموروث، التمرد على المألوف، و.... وكلها ممارسات تفضي الى انقلابات عقيدية وفكرية تزعزع القناعات والاطمئنان، وتطيح بالصور النمطية للوعي الديني. لذا فحصول التطور يتوقف على مدى استجابة الانساق الفكرية للنقد، ومدى قبول الجهات المعنية بنتائجه. فالانساق المغلقة والمرجعيات المتعالية لا يمكنها مواكبة التطور، لانها ترفض النقد وتتمرد على نتائجه. فمثلا عقيدة الحركة الاسلامية بقداسة منظومتها الفكرية والعقيدية لا تسمح لها بقبول النقد، كما ترفض أي ممارسة لنقدها او التحرش بانساقها. وايضا الحركات الاسلامية التي
لا تؤمن بنسبية المعرفة الدينية، فانها تتصدى للنقد بعنف، وترفض التماهي مع ثقافة التعدد والاختلاف. ولا تعترف بالاخر حتى وان كان الآخر داخليا غير مختلف دينيا. وبالتالي لا يمكن لهذه الحركة مواكبة الحاضر المتعدد والمختلف دينيا وعقيديا الا بسحق الآخر ومصادرة حريته. بينما مقتضى الايمان بنسبية المعرفة الدينية هو الاعتراف بالاخر، بما في ذلك الآخر المختلف دينيا، على اساس نسبية المعرفة ونسبية الحقيقة، دون اطلاقها، لعدم وجود من يدعي الحقيقة المطلقة، وانما لكل شخص نصيب منها. اذا فالتطور في أي مجال يعتمد على مدى استجابته للنقد والمراجعة، ومدى قبوله بنتائجهما اضافة الى نتائج العقل والعقلانية، وهو ما يتنافى مع الاطلاق والقداسة والشعور بالفوقية التي تتصف به اغلب الحركات الاسلامية.
تأسيسا على ما تقدم، تبقى الحركات الاسلامية جزءا لا يتجزء من الوعي الديني للشعوب الاسلامية. وهو وعي ملتبس، اسطوري، تقليدي. كما انها تتوحد معه في مرجعياتها الفكرية والعقيدية، وهي مرجعيات لا يساهم العقل في تشكيل أي نسبة فيها. وعندما ندرس تفصيلات الوعي لدى هذه الشعوب نجد النقد ما زال محرما في المجال الديني، وما زالت الممارسات النقدية خجولة ومترددة في المجالات الاخرى سيما في الحقلين السياسي والفكري. ويعود السبب في ذلك الى امور:
اولاً - غياب النقد كخطاب وثقافة عامة طوال العصور المنصرمة، ما عدا استثناءات قليلة، لا تعبر عن وجود وعي حقيقي بأهمية النقد ودوره الكبير في تطوير الفكر والحضارة، وانما بقي النقد همسا وخلف الجدران. فالاجواء العامة لا تساعد على ممارسة النقد بحرية كاملة تسمح بتفكيك الخطاب الديني، ومحاكمة الانساق الفكرية. والناقد سوف يصطدم بثوابت العقل التقليدي عند اول خطوة جريئة، تمس العقائد الموروثة. لهذا بقيت الثقافة التقليدية تسود الاجواء المعرفية على جميع الاصعدة. واحدها المرجعيات الفكرية للحركات الاسلامية والخطاب التثقيفي للاحزاب الاسلامية، لارتكازها للموروث الديني بشكل كامل دون أي ممارسة نقدية حقيقية تتوغل في عمقه لتحديد نسبيته وشروط فعليته. فالفرد الحركي هو نسخة من التدين الشعبي على صعيد العقيدة، ماعدا ومضات وعي تثير بعض الاشكالات، لكنها لا تندفع الى الامام لتصطدم بالموروث الثقافي والديني، او تتحرر من سلطة التراث والماضي.
ثانياُ - تجذر الاستبداد السياسي، وسيطرة الانظمة الدكتاتورية القمعية المتسلطة على رقاب الشعوب. التي حرمت أي ممارسة نقدية تنال من وجودها او تشكك في شرعيتها. وليس اقصاء المعارضة وتكدس السجناء السياسيين في زنزانات الحكومات المستبدة الا مثالا واضحا لذلك.
ثالثاُ - تخلي النخب الثقافية والفكرية عن دورها في تثقيف الشعوب على ممارسة النقد، بل ان هذه الطبقة من الانتلجنسية لا تتقبل النقد، وتعيش حالة من التعالي والفوقية والغطرسة ترفض معها الاعتراف بالاخر المماثل، فكيف بافراد الشعب، او الآخر المغاير؟. والامر ذاته ينطبق على الحركات الاسلامية، فانها ترفض أي نقد يوجه اليها بينما تسمح لنفسها ممارسة النقد ضد أي جهة من الجهات.
رابعاً - الهالة القدسية التي احيطت بها المعرفة الدينية ورجال المؤسسة الدينية لم تسمح لاحد التجرئ عليهما الا لمماً. فرجل الدين غير خاضع للنقد، ولا يجوز لاحد المساس بقدسيته او مناقشة افكاره ومعتقداته، باعتباره ممثل السماء في الارض. ولما كان رجل الدين يستمد قدسيته من قدرته على تفسير النص وشرح الكتب التراثية المغلقة، واختصاصه بفهم الفكر الديني، لذا فهو يدافع عن تلك المنظومة المعرفية، ويمنحاها اقصى درجات القداسة، ليستمد منها قداسته، بعد ان يصبح النقد معها محرما. أي اننا امام دور منطقي، تتوقف فيه قدسية النص الديني على قدسية رجل الدين، وتتوقف قدسية رجل الدين على قدسية النص الديني سيما كتب التراث. لذا فحرمة النقد تمتد من رجل الدين الى النصوص القديمة وكتب التراث ثم تعود اليه، في حركة دائرية مغلقة. ولا نقصد بالنص الديني نصوص الكتاب الحكيم او ما هو الصحيح من السيرة، فان قدسيتهما نابعة من مصدرهما، وليس لرجل الدين علاقة بهما، وانما نقصد كتب التراث وما انتجه الفكر الديني والاسلامي. ورغم كل ذلك فان نصوص القران مفتوحة قابلة للدراسة والمراجعة والتأويل، دون ان يؤثر ذلك في قداستها.
لكن هل من وعي يكتشف الحقيقة؟
ام ان اخفاق الوعي يساهم في تعتيمها؟
انها مأساة الوعي المبتور المبتور الذي ابتلت به الحركات الاسلامية.