تابعت مثل غيري من العامة والمتعلمة، اليمنيين وغيرهم، ما تناقلته وسائل الإعلام المختلفة من أخبار، وما حملته أقلام الكتاب والمحللين (مؤيدة أو معارضة) على صفحات الجرائد اليمنية خصوصا، من أراء متنوعة حول أزمة اليمن السياسية التي تطورت لتأخذ بعدا عسكريا دمويا قمعيا على حد قول البعض (المعارضة)، دفاعيا عن مكتسبات الثورة بحسب رأي البعض الأخر (السلطة)، في الوقت الذي تلاشى فيه دور العلماء ليقتصر على التنديد من جانب، أو الاسترحام من جانب آخر، بمخاطبة السلطة ممثلة بالرئيس القائد ليتخذ قرار العفو الرسمي بحق السيد حسين الحوثي وأنصاره.
ولا شك فإن في ذلك مصلحة عظمى لليمن لتخرج من أزمتها الحالية التي لن يستفيد منها أحد، ولن تسهم في تحقيق اللحمة الوطنية التي يطمح إليها الشارع اليمني، وبخاصة وأن مسائل من قبيل "الهاشمية، والإمامة، والزيدية، وغيرها قد عادت لتطفو على السطح مجددا بصورة بعيدة عن العقلانية والوطنية التي يتطلبها أي مجتمع.
وعلى الرغم من تأكيد سيادة رئيس الجمهورية على رفض إثارة مثل هاتيك القضايا، وأهمية تذويبها ضمن خصائص المجتمع المدني في اليمن، إلا أن الرفض الشفوي لا يكفي لبتر مناحي التفكير الطائفي والعصبي في مجتمع قد ترسخت فيه هذه المسألة، وارتبطت خلال الأربعة عقود الماضية بقضية التغيير السياسي الحادث في اليمن (الجمهورية)، فكان أن تعمق في وعي الشارع اليمني بقصد وبغير قصد الرابط الطائفي من جانب، والعصبي من جانب آخر، بين القديم والحديث، بحيث ارتبطت الإمامة كنظام سياسي بالهاشميين، في حين تعلقت الجمهورية من حيث هي كنظام سياسي بعصبية القبيلة، ثم ما لبث الأمر أن أدخلت الزيدية كمذهب فكري فقهي في دائرة الصراع السياسي باعتباره كان لزيم النظام الإمامي عبر القرون ؛ الأمر الذي كان له التأثير الواضح على بنية المجتمع اليمني بشكل أو بآخر خلال المرحلة السابقة، الذي تتجاذبه صورا من التراكيب المجتمعية المتنوعة، وهو ما تنعكس أثاره شئنا أم أبينا خلال هذه الأزمة على الحالة السياسية والعسكرية.
وبالرغم من أن أزمة السيد الحوثي تعكس ظاهريا جانبا سياسيا تغَّـلف ضمن إطار عقائدي دولي متمثل فيما اصطلح عليه إعلاميا بالحرب على الإرهاب، إلا أن جوانبها الخفية قد حملت ملامح فكرية واجتماعية تعكس أزمة داخلية.
فالإعلام لم يتعامل مع الحوثي على أساس مواطنته المدنية البحتة، بل نظر إليه بمنظار تاريخي سياسي باعتبار مرجعيته التاريخية لنظام الإمامة، وكأن المرجعية التاريخية قيد يصعب على الفرد التخلص منه بغض النظر عن ماهيته وكنهه.
إن أزمة اليمن في تصوري راجعة إلى هذا التصنيف الطائفي الذي ترسخ في العقول خلال المرحلة السابقة، والناتج عن القراءة المتشنجة ذات الطابع الإعلامي للفترة السياسية السابقة لقيام النظام الجمهوري، فكان أن أسدل الستار معرفيا على حقبة الإمامة التي دامت قرابة الألف ومائة سنة، وأصبح الحديث عن إيجابياتها، بل وحتى الحديث عنها بشكل إجمالي، من المحرمات التي يعاقب عليها القانون الوجداني لبعض منظري الحقبة الحديثة، وترسخ في الأذهان أن الإمامة بخصائصها التاريخية تعني النقيض الكلي للجمهورية، بل والأدهى من ذلك أنها ارتبطت حصريا بالأسرة الهاشمية، لتكون بمثابة اللعنة التاريخية عليهم، دون النظر إلى مختلف التراكيب الاجتماعية اليمنية التي شكلت العمود الفقري لنظام الإمامة منذ نشأتها أواخر القرن الثالث الهجري وحتى سقوطها الفكري أوائل عهد الإمام يحيى حميد الدين (1904 – 1948م)، ومن ثم سقوطها السياسي سنة 1962م بقيام النظام الجمهوري الذي شارك في صنعه وتثبيته عناصر متعددة من الضباط الهاشميين كذلك.
لقد كان من جراء تلك القراءة المتشنجة التي وضحت في الخطاب الإعلامي العام، وفي بعض القراءات التاريخية والفكرية، والتي انساقت لتربط بين النظام السياسي من جهة، والفكر الزيدي من جهة أخرى، أن تأزمت الأحوال، وبخاصة وأن الزيديين في اليمن قد تعرضوا لهجمة فكرية مناهضة، في ظل تأزم العلاقة بين السنة والشيعة خلال المرحلة السالفة، وهو ما جعل البعض منهم ينكفئ على نفسه، فيما حاول الآخر مد جسور التعاون مع مختلف الجهات الفكرية للحيلولة دون التلاشي، وهو ما وقع فيه ربما السيد الحوثي في مرحلة ماضية.
ولذلك فأتصور أن المخرج من هذه الأزمة يستدعي من كل باحث مسئول التعمق في خلفياتها، وقراءة التراكم التاريخي للعلاقة الاجتماعية الفكرية اليمنية بكل جدية وحصافة، فالقضية ليست صراعا مع طائفة مارقة، أو ضد شباب مشوه الفكر نعمد إلى تقويمه بقوة السلاح، أو بفتح باب الحوار ؛ إنما هي أزمة اجتماعية تنموية تحمل في ثناياها هما تاريخيا من جهة، ومشكلة إنسانية من جهة أخرى، يجب النظر إليها بجدية لتحقيق خاصية المجتمع المدني الذي يحقق السلام المجتمعي. وبخاصة إذا ما أدركنا أن جوهر النظام السياسي الإمامي الشوروي لا يختلف كثيرا عن جوهر النظام السياسي الجمهوري الديمقراطي من جهة، كما أن العبرة ليست بالأسماء والألقاب، وإنما بالتطبيق والعمل.


عضو جمعية المؤرخين الخليجيين
باحث في الشؤون اليمنية