لكي تصحح مصر الاخطاء الدستورية البريطانوأميركية
جميل ما نقلته الأخبار مؤخرا عن عزم مصر الابتعاد عن النظام الشبيه بالنظام البريطاني الذي يمارس فيه مجلس اللوردات (1185 عضواً بالوراثة و 2 من الاساقفة و 24 هم اعلي مطارنة الكنيسة الانجلكانية) رقابة علي قرارات مجلس العموم (651 عضو) إذ يملك سلطة تأخير سريان قراراتهم لمدة عام كامل (راجع موقع الاستعلامات البريطانية www.britannia.com/gov/). و ذالك عبر الاتجاه لنظام أتمني ان يكون شبيه بالكونغرس الأميركي الذي يتكون من مجلسين هما النواب (435 عضو يمثل كل منهم دائرة جغرافية صغيره و لمدة سنتين فقط) و الشيوخ (100 عضو تمثل فيه كل من الولايات الخمسين بعضوين مدة خدمتة كل منهما ست سنوات). وتجري اعادة انتخاب ثُلث أعضاء مجلس الشيوخ كل سنتين من قبل مجموعة كبيرة تتكون من جميع الناخبين المسجلين في الولاية المعنية. و قد كان الدستور الامريكي الأصلي ينص علي أن أعضاء مجلس الشيوخ لا يُنتخبون بل يجري تعيينهم عبر المجالس التشريعية للولايات. ولكي تتضح الحكمة الكامنة في هذا النظام أود أن انوه الي ان طريقة إنتخاب أعضاء مجلس الشيوخ اكثر تمحيصاً من تلك المتبعة في إنتخاب أعضاء مجلس النواب ؛ لاحظ إتساع قاعدة الناخبين و تجديد مجلس الشيوخ تدريجياً كل 6 سنين لتفادي نزوات الناخبين اللحظية (مثل الهلع الذي اصاب ناخبي اسبانيا بعد تفجيرات مدريد). ايضا تجدر الاشارة الي ان كلمة Senate مشتقة من كلمة senior و التي تطلق علي كبار السن الذي عاركوا الحياة و خبروها و مجلس الشيوخ القصد الاساسي منه فرملة وكبح جنوح النواب اذ ان بعض آباء امريكا المؤسيسين كانوا يقولون في الديمقراطية ما لم يقله مالك في الخمر و لذا ارتكنوا لنظام توازن السلطات. و من البديهي ان كل من المجلسين يشرف علي أداء الآخر إذ أن القوانيين الصادرة من كل منهما لابد من أن يوافق عليها الآخر.
و من المعروف ان بريطانيا تحكم عبر العـُرف و السوابق القضائية و ليس لديها دستور وهذا امر قد يستغرب البعض انه قد يكون نعمة احيانا اذ ان الدساتير (و بالاخص المليئة بالتفاصيل منها) تفتح المجال للمحرفين الذين يتسترون وراء (انا وجدنا عليها آباءنا)؛ و أضرب مثلا بأن آباء اميركا المؤسسين كانوا يستعملون كلمة religion لتعني المذاهب المسيحية المختلفة و قد نجح هؤلاء في تغيير الفهم المعاصر للكلمة ليعني الدين برمته لكي يفصلوا الدين (و ليست المذاهب) عن الدولة. و قد احسنت مصر بجعل الشريعة الاسلامية المصدر الاساسي للتشريع اذ ان ذلك يغلق الباب امام هؤلاء و رفاقهم من القضاة ذوي التوجهات السياسية political activist judges. و يا حبذا لو قامت مصر بشئ من الاجتهاد في مجال اشراك اخواننا الاقباط في المشترك من الشرائع الابراهيمية (لربما حان الاوان لمراجعة الاجتهادات القديمة مثل التي تقول بأن المسيحي يباح له شرب الخمر في بلد مسلم هذا مع العلم ان اميركا كانت اشد الدول شراسة في منع الخمر و الي يومنا هذا يحظر القانون بيع الخمر في كثير من مقاطعاتها يوم الاحد). اي بتعبير آخر ينبغي الاتجاه لمعاملة الاخوة المسيحيين العرب كشركاء في ملة سيدنا ابراهيم (عليه الصلاة و السلام).
و لكم اتمني ان تتضمن التعديلات الدستورية المصرية اضافة حقا للنقض «الفيتو» مثل الذي يعطيه الدستور للرئيس الامريكي علي قرارات مجلسي الكونغرس ؛ إذ أن كل القوانيين لا تسري إلا بعد توقيعه عليها و له الحق في الاعتراض علي أيه قانون و أعادته للمجلسين وطلب تعديله وعليهما إما تعديل القانون مع الأخذ في الإعتبار رغبات الرئيس، أو إعاده تمرير القرار بأغلبية الثلثين أو أكثر لتخطي فيتو الرئيس، أو التخلي عن القانون جملة و تفصيلاً. و علي الذي يعتـقد ان نظام الفيتو غريب علينا أن يراجع الآيات 32 الي 35 من سورة النمل ليري نهج هاتيك المرأة العاقلة «بلقيس» التي نـَـظمت عِـقدا اجتماعيا يجعلها لا تقطع في امر حتي يشهد مجلس شوراها و يفتي فيه و لكن مجلس الشوري هذا كان يقر (مثل الكونغرس الأميركي) بأن الامر في النهاية بيدها «وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ». و كيف اتخذت ملكة سبأ قرارا مناهض لرأي مجلس شوراها الذي فضل قتال نبي الله سليمان عليه السلام. أيضا ينلغي الانتباه الي ان حق النقض مهم جدا لإستقرار نظام الحكم الرئاسي لانه يسد الطريق امام المزايدات السياسية هذا بالاضافة الي ان لكل دولة اسرار لا يستقيم او ينبغي ان يضطلع عليها كل اعضاء الكونجرس ال535. و من المهم جدا الاشارة الي ان النظم الوزارية البرلمانية تستعيض عن نظام حق الفيتو هذا عن طريق منح البرلمان حق سحب الثقة من الحكومة و اعطاء الاخيرة حق حل البرلمان و الدعوة الي انتخابات جديدة. و من الطريف ان مجلة التايم الاميركية نعتت الرئيس بوش الإبن بال Yes man (رجل أيوه نعم) للأنه لم يفركش حتي الآن اية من قرارات الكونغرس و قد كان رونالد ريغان يقول للكونغرس عندما يزمع اعضاءه المشاغبة make my day (اسعدوا يومي)، اي بإعطائي فرصة نقض قراراتكم.
و لكي لا يحسب القارئ انني ارجح كفة القائلين بأن الشوري مـُـعلمة و ليست مـُـلزمة و انني أؤيد فقهاء السلاطين الذين يعطون بسذاجة (و لربما عن خبث) الحاكم صكا علي بياض Carte blanche لكي يهدي الناس سبيل الرشاد. و بما ان الإسلام دين وسط لا تفريط فيه و لا افراط، فلا يعقل ان يدعي احد ان آراء العوام و بلأخص الغوغاء منهم (أو من سماهم قدماء اليونانون بالدموس demos) ينبغي أن يكون ملزماً للحاكم. و لعل «فإذا عزمت فتوكل علي الله إن الله يُحب المتوكلين» الواردة في آية الشوري بسورة آل عمران و استخدام صيغة المفرد في «عزمت فتوكل» تدل علي ان الحاكم ينبغي ان يُعطي مساحة معينة من حق الاختيار. و قد انتبه المفكر النمساوي المسلم، Leopoard Weiss، «محمد أسد» 1900 الي 1992 الي التوضيح المذكور في الآية 59 من سورة النساء المفضي ان مساحة الاختيار هذه محدودة و غير مطلقة «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً». أنظر كتاب محمد أسد « The Principles of State and Government in Islam » «قواعد الدوله و الحكم في الاسلام». ففرصة الإختلاف مع الرئيس، «فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ»، متاحة عبر اعطاء الكونغرس حق اسقاط الفيتو overriding the veto بتصويت ثلثي الاعضاء بكل من مجلسي النواب (435) و الشيوخ (100) ضد فيتو الرئيس. و حتي اذا استمر النزاع يمكن رده، «فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولًِ»، لجهاز تشريعي يُفترض فيه العلم بالقرآن و السنة مثل المحكمة العليا. و من المعلوم ان المسلمين كانوا من السباقين في مجال وضع لبنات مايتعارف عليه اليوم بمبدأ ال Checks and Balances "أي فصل السلطات و توازنها." و هي تسمية مأخوذة من العبارة keeping things in check، safeguarding، and maintaining balance و ذلك بتوزيع المهام و توسيع دائرة المشاركة المؤطرة بمبداء الشوري.
التعليقات