كثر الحديث فجأة عن أزمة دارفور وأصبحت من المشكلات الساخنة على الساحة دولية لدرجة انها أصبحت تتصدر نشرات الأخبار شأنها شأن الأحداث الساخنة في العراق وهو ما يدعو للحيرة والدهشة ويدفع للتساؤل لماذا هذا الاهتمام المفاجئ بدارفور ولماذا فجأة انتهى الحديث عن الحل السلمي بين الشمال والجنوب والتبشير بعهد جديد من الحرية في السودان وبداية الأمل في رفع الحصار عنه؟ ولماذا انتقل اهتمام الإدارة الأمريكية فجأة من الاهتمام بالحل السلمي بين الشمال والجنوب كصفقة من صفقات يراهن عليها الرئيس الأمريكي الحالي جورج بوش كورقة انتخابية إلى الدفع فجأة بأزمة دارفور لواجهة الأحداث وتصبح قضية القضايا وتخرج التصريحات يمينا وشمالا تدين موقف حكومة الخرطوم من القضية وتعتبرها شريكا فيها لأنها تغذي القبائل العربية ضد القبائل الإفريقية فيعلن بعض المسئولين الغربيين أن الوضع في دارفور مأساة ويعلن آخر أن الوضع حرب تطهير عرقي ويعلن عضو بالكونجرس الأمريكي أن القضية حرب إبادة لا يمكن السكوت عليها. مالذي حدث هل هو تغيير في الاستراتيجية الأمريكية تجاه السودان؟ أم أن الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عظمى وحيدة في العالم بدأت في تنفيذ حلمها الإمبراطوري المؤجل منذ عقود رأت أن اللحظة مواتية لمد سيطرتها وهيمنتها على القارة السمراء التي تعوم على بحار من النفط وتحتوي على ثروات هائلة وبالتالي رأت أن الوقت قد حان لنقل المعركة لجبهة أخرى خصوصا وأن جبهة الشرق الأوسط قد خضعت تماما للهيمنة الأمريكية دون منغصات إلا من بعض جيوب المقاومة العراقية الزمن كفيل بحلها أو يجب نقل مسرح العمليات لجبهة أخرى للتغطية على ما يجري هناك كما حدث من قبل وتم نقل مسرح العمليات من أفغانستان للعراق دون حل الصراعات المتفاقمة في أفغانستان؟.
هذه الأسئلة وغيرها دارت بذهني وأنا أتابع تصريحات المسئولين الغربيين حول أزمة دارفور بداية من الأمين العام كوفي عنان ورئيس مفوضية الأوربية ووزير خارجية أمريكا كولن باول وغيرهم وقلت في نفسي لماذا الاهتمام الآن بالذات بأزمة دارفور؟ خصوصا وأن الصراع بين القبائل منذ فترة طويلة قبل الدخول في مفاوضات الحل السلمي بين الشمال والجنوب برعاية أمريكية هذه المفاوضات السلمية التي أوشكت على الانتهاء والاتفاق على كل شيء وكان من المفترض توقيع الاتفاق النهائي في حفل خاص يقام لهذه المناسبة في البيت الأبيض وكان اهتمام الإدارة الأمريكية بهذه المحادثات قويا لدرجة أنها كانت تضغط بقوة على الطرفين للوصول لحل نهائي لدرجة دفعت بعض المحللين والمتابعين للقول إن الإدارة الأمريكية أعدت خطة وطالبت الطرفين بالتوقيع عليها وقالت لهم أنتم في صراع منذ ثلاثين عاما لم تستطيعوا خلالها من التوصل لحل الآن عليكم التوقيع فقط على خطتنا لحل النهائي وأخيرا انفض المولد وانتهى تماما الحديث عن حل نهائي بين الشمال والجنوب وتحول لضرورة حل أزمة دارفور التي اتخذ مجلس المن قرارا بشأنها وأمهل الحكومة السودانية فترة لحلها بعدها يعطي الأمم المتحدة الحق في التدخل لحل الأزمة وإرسال قوات أجنبية لحماية أهل الإقليم الذين يتعرضون لعدوان من قبل الحكومة وميليشيات تغذيها الحكومة..!
في البداية رفضت حكومة الخرطوم وتصرفت بعنترية عربية ملوحة بمظاهرات جماهيرية تدعو للجهاد وسحق متمردي دارفور لكن في النهاية استجابت لصوت العقل والحكمة وبدأت فعلا في التعامل مع القضية كمشكلة وخرجت تصريحات لمسئولين حكوميين بحكومة الخرطوم تنتقد قبائل الجنجاويد وتصفهم بأوصاف مثل قتلة وسفاحين بمعنى آخر تحول موقف الحكومة السودانية تجاه المشكلة وبدأت فعلا بالنظر بجدية للتهديدات الخارجية التي تريد لجرح السودان والأمة العربية أن يتسع ولا تريد له نهاية سعيدة كعادة الأفلام العربية وقد أمهل مجلس الأمن حكومة السودان فترة للحل السلمي الداخلي للأزمة بعدها يحق لمجلس الأمن أن يتخذ قرارا بإرسال قوات للمنطقة لحماية أهالي المنطقة الذين يتعرضون لحرب إبادة كما يقول بعض المسئولين الغربيين.
والسؤال الآن من سيحدد إذا كانت حكومة الخرطوم نفذت المطلوب منها؟ وكيف وبأي معيار؟ هذه الأسئلة تجعل من أزمة دارفور مجالا أمام تدفق قوات أجنبية بالتدفق على بلد عربي بحجة حماية أقلية تتعرض للإبادة والاضطهاد والتطهير العرقي على يد ميليشيات مدعومة من قبل حكومة الخرطوم. والواقع فقد بدأت القوات الأجنبية بالتدفق على الأراضي السودانية بمنطقة الأحداث بدارفور فقد أرسلت منظمة الوحدة الإفريقية جنودا للسودان للمساعدة في حل المشكلة بحجة حفظ الأمن وأخشى أن أقول أن هذه القوات ستكون نواة لتدخل أجنبي في السودان وبداية لتدويل أزمة دارفور التي يبدو أن المخطط الأمريكي الأوربي معد سلفا لتدويلها وقد يقول البعض أنني أفكر بمنطق المؤامرة وهو ما يعكس طبيعة العرب الذين يريدون الهروب من مواجهة الواقع التعس وتعليق مشجب مشاكلهم على الغير بحجة وجود مؤامرة خارجية تستهدف استقرارهم وذلك بدلا من التفكير الواقعي في المشاكل والقضايا الداخلية ومواجهتها بشجاعة والاعتراف بوجود أخطاء ومشاكل داخلية وقيام حركة نقد ذاتي تكون بداية لنهضة داخلية وحركة إصلاح شامل تفتقر إليه الدول العربية والإسلامية ولا تريد مواجهته والسعي لإيجاد حلول حقيقية لمشاكل المزمنة والمتراكمة جيلا عن جيل.
وحقيقة الأمر انه توجد بالفعل مشاكل وقضايا عربية يمكن حلها داخليا لكن كثير من الحكومات العربية لا تبذل الجهد الكافي لمواجهة هذه المشاكل ومنها مشكلة البطالة المتفاقمة في معظم البلدان العربية وقضية حرية الرأي والممارسة السياسية لجميع المواطنين كأبناء لوطن يحق لهم أن يساهموا في حل قضاياه ومشاكله وليس كأتباع ليس لهم سوى قول آمين وسمعنا وأطعنا.
لكن من جهة أخرى لا يمكن أن ننفي وجود مؤامرات خارجية تسعى لعرقلة الإصلاح الشامل والوحدة العربية سياسيا واقتصاديا فالحرب على العراق واضح أنها كانت خطة أمريكية منذ فترة طويلة وان الإدارة الحالية استغلت أحداث سبتمبر لفرض هيمنتها على العالم وبالتالي شنت حربها على العراق بمزاعم ثبت بعد ذلك كذبها وهو ما يبدو لي أنه نفس الموقف الذي يقف خلف أزمة دارفور الحالية وتسليط الأضواء عليها حتى يكون ذلك ذريعة لتدخل أجنبي بحجة حماية المضطهدين في غرب السودان ليس معنى هذا أننا نفي وجود مشكلة في الإقليم ولا انه يعاني تهميشا من قبل الحكومة المركزية في السودان شانه شان معظم دول العالم التي ينصب الاهتمام فيها على المراكز دون الاهتمام الكافي بالأطراف فعلى سبيل المثال توجد في أمريكا نفسها ولايات تعاني التهميش من قبل الحكومة المركزية في واشنطن وولايات أخرى تلقى الدعم الكامل والاهتمام الكافي فمثلا ولايات مثل شمال وجنوب كالورنيا تعاني تهميشا كبيرا على حين تلقى ولايات مثل كالفورنيا وتكساس ونيويورك اكبر الدعم والاهتمام فقد حكت لي باحثة أمريكية كانت تدرس الدكتوراة بجامعة ولاية أريزونا حين كنت أستاذ زائر هناك عام 95/96 وهي من شمال كالورانيا أن والدها وهو أستاذ جامعي لم يكن يمتلك بمكتبه جهاز كمبيوتر على حين كان لكل باحث يدرس بمنحة في الولايات العادية جهاز فما بالك بالولايات الغنية معنى هذا أن في كل بلد هناك مناطق مركزية تلقى الاهتمام لأسباب سياسية واقتصادية ومناطق أخرى تعاني التهميش والإهمال لكن ليس معنى هذا أننا ندافع عن موقف حكومة الخرطوم من صمتها وإهمالها الطويل لإقليم دارفور وعدم الاهتمام الكافي به.
معنى هذا أن الاهتمام المفاجئ بأزمة دارفور وتدويلها يعكس من وجهة نظرنا مؤامرة الغربية ( أوربية/ أمريكية) على السودان تستهدف في الأساس وحدته كدولة كبيرة آن حسب المخططات الغربية تقليم أظافرها وتفتيتها إلى مجموعة دويلات متناحرة فيما بينها واحدة مسلمة في الشمال واحدة مسيحية في الجنوب تقف كحائط صد أمام زحف الإسلام في إفريقيا وتفسح المجال واسعا أمام الجمعيات والإرساليات التبشيرية للممارسة دورها ونشر المسيحية بين أهالي الجنوب ثم دولة إفريقية في الغرب رغم ان معظم الغرب مسلمين لكن العب هناك يتم بورقة العرقيات عرب وأفارقة ويبدو أن الاهتمام الغربي بدارفور ازداد بعد تفاقم أزمة النفط كسلاح يهدد الاقتصاد العامي بعد ازدياد الطلب عليه بكميات تفوق الإمكانيات المتاحة حاليا وحاجة أمريكا وأوربا البحث عن مناطق جديدة غنية بالنفط مثل أفريقيا وعلى رأسها السودان التي تقول التقارير أنها تعوم على بحار من النفط في كل الأماكن في الشمال والجنوب والغرب هذا علاوة على الأزمة الحالية التي دفعت بأسعار النفط لمستويات قياسية جديدة تقول بعض التقارير أنها مرشحة للاستمرار فترة كبيرة قادمة نتيجة لعدم الاستقرار في منطقة الشرق الوسط واستمرار أحداث العنف الذي يبدو انه بلا نهاية في العراق فقد وصل سعر برميل النفط لأعلى مستوى فاقترب من خمسين دولارا وهو رقم لم يبلغه من قبل علما بأن من أهداف حرب العراق استقرار سعر النفط في حدود 18 إلى 15 دولارا حسب رأي المحللين الغربيين أنفسهم إبان الإعداد الأمريكي للحرب على العراق..!
كل هذا يؤكد أن أزمة دارفور هي بداية لأزمة جديدة تتيح المجال لتدخل أجنبي في بلد عربي بحجة حماية أقلية مضطهدة كما كان الشأن في الحرب على العراق بحجة حماية الأكراد والشيعة المضطهدين والآن الصراع والعنف يطحن الجميع غير مفرق بين مذهب أو طائفة أرجو أن تنجح جهود الحكومة السودانية لحل الأزمة وان يقتنع المجتمع الدولي وعلى رأسه أمريكا بالحل السلمي دون تدخل عسكري غربي بقيادة أمريكية لتمزيق بلد عربي آخر وإهدار دمه بين القبائل بحجة حماية طائفة تتعرض للإبادة وهو نفس المبررات التي سيقت من قبل في احتلال العراق وإذا كانت الأمم المتحدة صادقة في حل مشاكل الأقليات أين هي من المجازر التي تعرض لها قبائل التوتسي على يد قبائل الهوتو أم أن التوتسي قبائل مسلمة ودم رخيص ومن ثم فهو حلال لأعدائهم.
علينا أن نسعى كدول عربية لمآزرة حكومة وشعب السودان لما يدبر لهم لأنه يبدو أن شهية الغازي الأوربي قد انفتحت بلا نهاية على خيرات هذه الأمة وعلى دم أبنائها الأبرياء تلغ فيه بلا ثمن ولا رادع أرجو أن أكون مخطئا في قراءتي للمشهد السوداني الراهن وللأسباب التي دفعت بأزمة دارفور لتحتل واجهة الأحداث وأن يكون الاهتمام الغربي بهذه الأزمة فعلا لأسباب إنسانية محضة تهدف لإنصاف المظلومين والمضطهدين وليس بداية لعدوان غربي جديد على بلد عربي يعاني من حصار وصراعات لعشرات السنين أكلت الأخضر واليابس وأثقلت كاهل الجميع وحينما لاح في الأفق أن هناك أمل في الحل السلمي وبداية مرحلة جديدة من الاستقرار والرخاء فجأة انبثقت من بين الركام أزمة دارفور لتخطف الأضواء لكن إلى متى؟ لا أظن أن نهاية تلك الأزمة ستكون قريبا لأننا ما زلنا في البداية والفصول سوف تتابع سريعا وبقوة وبصورة تذهل الجميع فما زال في جراب الحاوي الغربي بقيادة أمريكا للمنطقة الكثير والكثير من الألاعيب والحيل لك الله يا أفريقيا السوداء فقد حل عليك الدور لتدخلي العصر الإمبراطوري الجديد بما تضمينه من ثروات وخيرات في أحشائك حرم منها أبنائك التعساء حتى يأتي النبلاء فيحصدونها..!

كاتب مصري/جامعة الإمارات