مررت هذا الصيف بلبنان وكنت قد زرته في صيف 94 م زيارة قصيرة لا تتعدى ثمان وأربعين ساعة، حيث كانت الدبابات في ذلك الوقت تملأ شوارع بيروت والجبل، وقد ذهلت من شدة التدمير الذي أصاب البلد آنذاك، وذهلت هذا الصيف من سرعة الترميم وإعادة بناء ما تهدم. وقلت لكل من قابلني بعد العودة من لبنان : إن الشعب اللبناني شعب " بناء" والسبب في ذلك يعود إلى الروح الحية التي تسكن جسد الإنسان اللبناني، وعرفت سببين لرقي الشعب اللبناني وقوة بأسه، مما جعل اللبناني يعتبر الأرقى في ذوقه وحضارته بين العرب، والأقدر على تحرير أرضه دون اتفاقيات، بالرغم من أنه الأقل سكانا وثروة والأصغر مساحة.
والسببان وراء رقي اللبناني وقوة بأسه كما عرفتهما، يكمنان في جمال طبيعته وشموخ جباله الغنية بالخيرات والخضرة.
فجمال الطبيعة صنعت من اللبناني إنسانا جميل الذوق والإحساس، وشموخ الجبال الغنية بالخيرات والخضرة جعلت منه إنسانا يصعب هزيمته.
وكلما مررت بشارع أو ضيعة في لبنان رددت على أصحابي عبارتي المفضلة ( غير معقول أن يعيش هذا البلد حربا لأكثر من عشرين عاما ولايزال يعيش أجواءها من حين لآخر ويستطيع أن يعيد بناء نفسه بهذه السرعة بالرغم من قلة موارده، ليشعر الإنسان المسافرالى لبنان أنه في بلد أوروبي وليس في بلد عربي ) ! وتذكرت زيارات سابقة لبعض البلدان العربية، حيث كنت أشعر بعذاب الرحلة منذ اللحظة الأولى التي أقف فيها أمام موظف الجوازات إلى أن أخرج من المطار الكئيب بعد المرور بعدد من الموظفين المتعبين "نفسيا "، الذين يتولون تفتيش جواز سفري واحدا تلو الآخر بحثا عن ورقة مالية " بخشيش ". وعندما لا يجدون ما يبحثون عنه بين أوراق جوازي يمارسون عليّ ذلك العقاب النفسي دون أن أدرك المغزى من تعذيب مسافر مثلي، وإلا لدفعت لهم مايريدون وخرجت من حصارهم لي بأقل من ذلك الوقت الطويل الذي قضيته من يد موظف إلى آخر. لكنني ماكنت أظن أن موظفا في مطار بلده لايهمه أن يعكس تلك الصورة السيئة والقبيحة في أهم واجهة للبلد.
وقد حمدت الله كثيرا أنني لم أقابل موظفا في مطار لبنان بتلك المواصفات التي رأيتها في بعض المطارات العربية الأخرى.

كان لبنان سويسرا الشرق، فذهب إليه العرب بصراعاتهم ومشاكلهم، لتصفية حساباتهم على أرضه، فحققوا مايريدون لأكثر من عشرين سنة وحولوه من سويسرا الشرق إلى صومال العرب، لكن الروح اللبنانية الراقية والمحبة للحياة، أبت إلا أن تنتصر على كل الأعداء والمتآمرين، وبعودة تلك الروح اللبنانية التي لا تقبل العيش في السفوح إلى ممارسة حياتها الطبيعية، فضحت كل من ذهب إليها بقصد التدمير والتآمر، فاستعاد اللبناني أرضه في أكبر انتصار حضاري، وأعاد بناء ماتهدم في اقصر مدة زمنية وبإمكانيات مادية متواضعة.

إن أرضا أنجبت جبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، وفيروز والرحابنة، والمقاومة التي هزمت أكبر قوة عسكرية في الشرق الأوسط هي أرض كريمة ومعطاءة، لاتستسلم للمؤامرات ولا تقبل بالهزيمة، وجديرة بأن تقود العرب إلى حضارة القرن الواحد والعشرين. فليس هناك في العرب من هو أجدر من اللبنانيين لقيادة العرب نحو مستقبل مشرق.
اللبناني : إنسان حر ويرفض أن يكون عبدا....
والأحرار هم من يستطيعون تحرير الأرض وبناء الحضارات. لقد ازددت حبا لنزار قباني بعد أن أدركت سر حبه للبنان، وازددت حبا لجبران
الذي قال " الحب كنز عظيم يودعه الله النفوس الكبيرة ".
لأن اللبناني يحمل في جوفه نفسا كبيرة، تحب بلا حدود وتنتصر بلا هوادة.
نفس اللبناني شامخة كجباله، عميقة كبحره، صلدة كالصخر، كريمة كالبساتين التي تشبعك فاكهة طرية مرتوية حتى الترف من الينابيع السخية !

[email protected]
يتبع في الحلقة القادمة