نوعان من البشر في مجتمعاتنا بلغا مرتبة من النرجسية فاقت في تطرفها و ساديتها كل أشكال و مراتب الأنانية التي عرفها تأريخ الشعوب.. إنهم بعض المثقفين الحالمين بفردوس الخلود الدنيوي و بعض المتدينين الحالمين بجنة الخلد الأبدية من أصحاب منطق " آني هسّة معلية بس من تُصفة آني أدخل على الخط " الذين لهم دائماً عين على الدنيا وعين على الآخرة وحسب ظني فأنهم وبأتباعهم لهذا المنطق الأعور قد " أضاعوا المشيتين فلا دنيا ولا آخرة ".
فسعياً وراء منطقهم المذكور يجعل هؤلاء " أذن من طين و أذن من عجين " أمام ما يحدث أمامهم من مهازل و يكتفون بالإستنكار و التنديد لما يفعله السيد مقتدى الصدر و الدكتور أياد علاوي و الأميركان و قاطعي الرؤوس و... و... و... أما عندما تسأله عن رأيه الواضح و الصريح بما يجري يتهرب من الإجابة و يدخلك أما في متاهات المصطلحات الثقافية أو في دهاليز الفتاوى الشرعية ليخرج منها بالتالي " كالشعرة من العجين " و ليبريء ذمته حسب أعتقاده الخاطيء طبعاً أمام الله و التأريخ ناسياً أن الله و التأريخ لا يرحمون من سكت على جرائم و منكرات أرتكبت أمام عينيه بدعوى أنه مسالم يكره رائحة الموت و الدمار لأن السكوت عن الجريمة وعدم الوقوف بوجهها بحزم سيُفَرّخ المزيد من الجرائم و يُسيل المزيد من الدماء و يُزهق المزيد من الأرواح التي يدّعي هؤلاء حرصهم عليها.
لقد سأم أغلب العراقيون من الشعارات التي لا تطعم من جوع ولا تؤمّن من خوف.. فالكلام المنمّق والحديث المعسول عن المثل والقيم التي ترى الناس يموتون أمامها و تكتفي بذرف الدموع و شتم الآخرين لم يعد لها مكان في قاموس حياتهم.. فكثيرون كانوا ولازالوا يقولون وفي أندفاع هستيري " أننا ضد الحرب على صدام.. وضد صدام.. وضد الأمريكان.. وضد الجريمة.. وضد أعادة حكم الأعدام في بلد يسرح و يمرح به عتاة المجرمين.. وضد الحكومة.. وضد المقاومة المسلحة.. وضد الشرطة و الجيش.. وضد المختطفين.. وضد.. وضد.. ماهذا الهراء؟ أَأُحجية هو أم طلسم تضحكون
به على ذقوننا؟ كيف كان يمكن أن يكون الخلاص لهذه الجموع البشرية المعذبة في أرض العراق وكيف سيكون اليوم بدون شيء من الحزم والقوة ضد من حاول ويحاول اليوم أن يقتل أحلام أطفال العراق؟ أترغبون في أستمرار مسلسل الموت الجماعي لأهلكم و أنتم جالسين في أبراج ثقافتكم العاجية التي لم نأخذ منها سوى هرائاً من نوع " أرجل الحضارة المتغلغلة في أذرع التأريخ " و" الاتجاهات الفكرية للنخب الثقافية المتفاعلة مع الأحاسيس الفنية المنبعثة من النفس البشرية " و غيره كثير من الكلام الذي " لا يودي ولا يجيب "؟ لم لانراكم في قلب الأحداث كما يفعل رجال
الشرطة والحرس والجيش العراقي الذين يتهمهم بعضكم بالخيانة وينعتهم بعضكم الآخر بالمجرمين في الوقت الذي يسهر فيه هؤلاء على راحة أهلكم و أقربائكم في العراق معرضين حياتهم وحياة أسرهم للخطر؟
أناس أنانيون لا يفكرون سوى بأنفسهم معتقدين خطأً بأن أتّباعهم لفكرة " أن الخلاص فردي و ِمن بعدي الطوفان " سيوصلهم الى بر الأمان " فمن غرق فهذا نصيبه و َمن أراد النجاة فليلحق بنا ".. لقد أصبحت الأنانية صفة ملازمة للكثير من هؤلاء الذين أعماهم التفكير بالخلاص الفردي الى الحد الذي جعلهم يصابون بالعمى الليلي تجاه ما يحدث لأهلهم في العراق فباتوا يرون الأبيض أسود و الأسود أبيض و أحياناً يرون اللونين رمادي فلم يعودوا يفرقون بين الشرطي و المجرم و بين السياسي و الطربكة و بين العالم و الجاهل و هذا هو حال من أصبحت حياته الخاصة و خلاصه الفردي شغله الشاغل.
لقد دوّخنا بعض هؤلاء بموضوع أن دولة رئيس الوزراء الدكتور أياد علاوي كان ( وأكرر ) كان بعثياً و كأنه ( وَجَد التايهة ).. لا أدري حقيقةً ما المشكلة في هذا الموضوع و ماسِرُّ التركيز عليه الآن خصوصاً أن السيد رئيس الوزراء وخلال فترة نضاله الطويل ضد الديكتاتورية قد غير من قناعاته الفكرية والآيديولوجيا السياسية التي يعتنقها وأصبح رجلاً ليبرالياً بل من أبرز زعماء التيار الليبرالي في العراق على عكس الكثيرين ممن لا يزالون يحملون في رؤوسهم ثقافة تسييس الأسلام وتسييس معاناة الشعوب ويتخذونها سبيلاً للوصول الى غاياتهم المريضة كما شاهدنا في السابق و كما نشاهد اليوم.. كما أن السيد رئيس الوزراء كان ولا يزال ضمن قلة قليلة وشجاعة من السياسيين العراقيين ممن لم ينكروا يوماً ماضيهم فقد صرح علناً و في أحيان كثيرة بأنه كان يوماً من الأيام بعثياً على عكس البعض ممن يدّعون اليوم بانهم كانوا ديمقراطيون وعلمانيون منذ نعومة أظفارهم متنكرين لتأريخهم السياسي الذي نعرفه و كأنه سبّة عليهم.
كنت قد أشرت بأسف في مقال سابق عن الكاتب العراقي الفلاني الذي ليس له من هم سوى المناكفة مع الكاتب العراقي العلاني.. و نسيت الإشارة و بنفس الدرجة من الأسف الى الموقع العراقي الفلاني " اللي حاط نِكرة من نكِر " و ليس له من هم سوى التشهير و الطعن بالموقع العراقي العلاني حتى أصبحت بعض هذه المواقع ساحة مكشوفة للنزاعات و المهاترات الكلامية بين هؤلاء و أولئك.
لقد حول النظام السابق بقسوته وبطشه وجبروته الكثير منّا الى كم مهمل لا حول له ولا قوة ينشد الخلاص الفردي و يغلّبه على الخلاص الجماعي الذي أصبح مستحيلاً في نظر الكثيرين.. ولكن النظام قد ولًى الى غير رجعة بممارساته البشعة واللاأنسانية و لم يعد هنالك اليوم من مبرر للأستمرار في تقمص ولعب دور المعارضة السلبية لحكومة ديمقراطية و منفتحة على الآخر لا تزال في الخطوة الأولى من طريق بناء بلد مدمّر و مشوّه أجتماعياً و أقتصادياً و سياسياً بل و حتى بيئياً و تأريخياً لذا فالسؤال.. متى يشفى هؤلاء من هذه الأمراض المزمنة التي زرعتها فيهم صراعات الداخل و عزلة المنافي؟ متى يتخلّون عن تقمص حالة المعارضة السلبية السابقة بمصطلحاتها ( كتّاب السلطة / المجرم فلان / جيش السلطة / كلاب.. و غيرها من المصطلحات التي لا تليق بمثقف ) أو بممارساتها ( كما نرى في داخل العراق ) والتي أنتهت أيامها الى غير رجعة؟ متى يتخلصون من حالة الفصام التي تجمع في الكثيرين منهم ما بين الحب الطاغي للعراق و الرغبة في تدميره.
أن الأنسان ومنذ أن أصبح له كيان أنساني متكامل أصبح لزاماً عليه أن يحدد موقفه تجاه الكثير من القضايا المصيرية في الحياة سواء منها تلك التي تخصه أو تلك التي تخص العالم الذي من حوله لذا فليعلم من أخصّهم بالذكر بأن من ينشد خلاصاً
فردياً بعيداً عن الخلاص الجماعي له و لمن حوله لن يرضى عنه لا الله ولا الشعب ولا التأريخ.
لذا فقليلاً من الواقعية و كثيراً من الحرص البعيدين عن المصطلحات الفوضوية والطوباوية يا مثقفي العراق حتى لاتصبحوا يوماً من مذنبي الضمير.
- آخر تحديث :
التعليقات