تحظى دراسة حقوق الإنسان بأهمية خاصة ترجع إلى الارتباط الوثيق بين احترام حقوق الإنسان من جانب، والتقدم والتنمية وتحقيق الرخاء والرفاهية لصالح الشعوب من جانب آخر، ولذلك نجد الدساتير المتحضرة والقوانين الداخلية تهتم بهذه الحقوق وبحمايتها.
غدت حقوق الإنسان بين المهام الأساسية المعهود بها للمنظمة الدولية للأمم المتحدة لكي ترعاها وتعمل على كفالة احترامها وتعزيزها وإتباعها.
إن وجود الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (10/12/1948) والاتفاقية الدولية للحقوق المدنية والسياسية (1966) والاتفاقية الدولية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (1966) والبروتوكول الاختياري الملحق بالاتفاقية الدولية بشأن الحقوق المدنية والسياسية الذي قرر حق الأفراد في أن يتقدموا إلى لجنة حقوق الإنسان
(Human Rights Committee )
بشكاوى عن دعواهم بأنهم " ضحايا انتهاك أي حق من الحقوق المقررة بالاتفاقية".
إن وجود هذه الاتفاقيات ليس هو مصدر الإلزام الدولي الوحيد لاحترام حقوق الإنسان، بل إن المصدر الدولي الأساسي للإلزام هو ميثاق الأمم المتحدة خاصة المادتين 55 و 56 اللتين تعهدت بموجبهما الدول الأعضاء الموقعة على الميثاق ( ومن بينها مصر ) بالعمل على احترام حقوق الإنسان.
إن الحقوق والحريات لم تعد أمرا داخليا بحتا يخضع لهيمنة الدولة فقط، إنما صار أمرا دوليا يتجاوز السيادة القومية ليجعل من الإنسان شخصا دوليا، فهو إذن أمر دولي يهم الجماعة الدولية بأسرها ويمكن القول بان الإنسان يتمتع بقدر من الشخصية الدولية يسمح له بان يدافع عن حقوقه في وجه دولته نفسها، وعلى المستوى الدولي بوصف هذه الحقوق حقوقا دولية تقيد من سيادة دولته.
ولقد اثبت الواقع انه مهما بلغت الضمانات القانونية والدستورية الداخلية للحقوق والحريات من أحكام، فإنها تظل مرهونة بمشيئة سلطة الحكم القادرة على أن تعصف بكل هذه الضمانات، فلا أمل في ضمان حقوق الإنسان ما لم يهتم الرأي العام العالمي بهذه الحقوق، وما لم تتضامن الدول والحكومات جميعا على تأكيد هذا الاحترام.
وطبقا لنص المادة 151 فقرة أولى من الدستور المصري، أصبحت هذه الاتفاقيات الدولية بشان الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية قانونا مصري، أي تلتزم بها جميع السلطات المصرية بدءا من رئيس الجمهورية ومرورا بوزارة الداخلية ومجلس الشعب والسلطة القضائية وكل أنواع وأفرع السلطة في مصر.
وهكذا يصبح القانون الدولي لحقوق الإنسان قانونا مصريا، بل انه يتميز عن سائر القوانين المصرية الأخرى بميزة تضعه في مرتبة أعلى وأقوى منها، فالسلطة المصرية ملزمة بتطبيق حقوق الإنسان تحت إشراف ورقابة الأمم المتحدة عن طريق تقديم تقارير للأمين العام تشرح فيها مدى احترامها وتطبيقها لهذه الاتفاقيات وتبين مدى التقدم الذي تم إحرازه في التمتع بتلك الحقوق، وذلك تطبيقا للمادة 40 من الاتفاقية الدولية للحقوق المدنية والسياسية التي صدقت مصر عليها يوم 14 يناير 1982.
وهكذا لم تعد قضية حقوق الإنسان ضمن التطور الدولي الراهن "قضية داخلية" تحجم الدول والحكومات والمنظمات الدولية عن التدخل فيها خصوصا وأنها أصبحت جزءا لا يتجزأ من المبادئ الملزمة وضمن الاتفاقيات التشريعية.
فكما نرى الآن تقدم مبادئ حقوق الإنسان برضا عالمي عام، لذا كان الهدف الأساسي من وراء مؤتمر فيينا الذي انعقد فيما بين 14 و 26 يونيو 1993 حيث انه توج هذا المؤتمر العالمي بإصدار إعلان فيينا الذي يعد وثيقة تاريخية وبرنامج عمل دولي يرسخ احترام حقوق الإنسان لصالح البشرية لوضع حد لمعاناة ضحايا انتهاك هذه الحقوق. كما توج المؤتمر مبدأ " عالمية حقوق الإنسان " وطالب بوقف كافة أشكال التمييز العنصري " واحترام حق الأقليات في ممارسة حقوقها وشعائرها الدينية".
والجدير بالذكر أن الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها السابعة والأربعين بجلستها العامة المنعقدة في يوم 18 ديسمبر 1992. أصدرت القرار رقم 47/135 بشان إعلان حقوق الأشخاص المنتمين إلى أقليات قومية أو أثنية أو دينية أو لغوية.
ولما كان الأقباط من الأقليات الكبرى في منطقة الشرق المضطربة، ولما كان وضعهم قد شغل في السنوات الأخيرة حيزا ملحوظا في الإعلام العربي والدولي لإلقاء الضوء على الانتهاكات المتكررة للحقوق الإنسانية لهذه الأقلية الدينية التي تمتد جذورها العرقية إلى المصريين القدماء فان الغالبية العظمى من المثقفين المسلمين لا يودون فتح ملفات تاريخ العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين على أساس علمي موضوعي إذ يخشون من مواجهة الحقيقة والاعتراف بما واجهه الأقباط تحت الحكم الديني الشمولي وتحت حكم العسكر منذ 23 يوليو 1952 حتى يومنا هذا، مما يهدد استقرار مصر كدولة عربية كبرى في منطقة الشرق الأوسط لما لها من علاقات حيوية بالعالم.
الجدير بالذكر أن القرار الدولي رقم 47/135 بشان إعلان حقوق الأشخاص المنتمين إلى أقليات قومية أو دينية أو أثنية. الذي صدر في 18 ديسمبر 1992. لم تشر إليه من بعيد أو من قريب الصحف المصرية القومية والمعارضة والنظام المصري بكافة مؤسساته وبمضمون هذا الإعلان الدولي والجميع لاذ بصمت مطبق مثل صمت أبو الهول، أفليس في هذا الصمت المريب الشك في أن النظام الحاكم في مصر ليس من اهتماماته احترام حقوق الإنسان بالنسبة للأقلية القبطية؟
لقد سبق لنا أن كتبنا أن حقوق الإنسان لم تعد "أمرا داخليا" بحتا يخضع لهيمنة الدولة فقط إنما صارت "أمرا دوليا" يتجاوز السيادة القومية ليجعل من الإنسان "شخصا دوليا".
فهو إذن أمر دولي يهم الجماعة الدولية بأسرها والنتيجة المترتبة على ذلك هو انه عندما يتعارض القانون القومي لبلد ما مع مبادئ حقوق الإنسان والقوانين الدولية، تصبح المطالبة بوضع حقوق الإنسان موضع التنفيذ.
والمضحك المبكي في أن واحد أن المسؤولين في مصر، ومعظم الإعلام المصري تطالب ليل نهار بحقوق الأقليات المضطهدة في الصومال وجنوب أفريقيا ويوغسلافيا والشيشان والفلسطينيين، بينما تنسى أو بالأحرى تتناسى حقوق الأقلية القبطية المضطهدة داخل مصرنا. " يا مرائي اخرج أولا الخشبة من عينك وعندئذ تبصر جيدا لتخرج القذى من عين أخيك" (متى 7:5)
نود أن نلفت أنظار المسؤولين في مصر أن الأقباط طوال تاريخهم الوطني رفضوا ويرفضون سواء في الداخل أو الخارج التدخل الأجنبي بالمعنى التقليدي، رفضا قاطعا تحت أي ادعاء أو أي مسمى، وهذا موقف قبطي قديم لا يحتاج إلى مزايدة من احد. ولكننا نقول بأعلى صوت بان استدعاء التأثير الأجنبي أمر مشروع تماما داخليا ودوليا. طبقا للقانون الدولي والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان وهو ما نسميه " الوساطات التأثيرية على الحكومة المصرية" ولهذا ندعو الأقباط – أفرادا وجمعيات ومؤسسات- أن يلجأوا إلى كافة المؤسسات الدولية المعنية بحقوق الإنسان لعرض مأساة الأقباط في مصر وما يلاقونه من اضطهادات وتفرقة وتمييز وانتهاكات لحقوقهم الإنسانية طبقا للمواثيق الدولية لحقوق الإنسان ونطالب النظام الحاكم في مصر بان تصدق مصر على البروتوكول الملحق بالميثاق الدولي للحقوق المدنية والسياسية الذي يقرر حق الأفراد في أن يتقدموا إلى لجنة حقوق الإنسان (Human Rights Committee )
بشكاوى عن دعواهم بأنهم ضحايا انتهاك أي حق من الحقوق المقررة بالاتفاقية.
وهذا التصديق من جانب مصر سوف يؤكد التزام مصر باحترام حقوق الإنسان على المستويين الدولي والقومي.
وفي نهاية هذا البحث نقدم بعض الاقتراحات التي نعتقد أنها كفيلة بإدخال مصر حظيرة الدول المتقدمة وفي ذات الوقت سوف تدعم الحدة الوطنية بين الأقباط والمسلمين وهذه الاقتراحات هي:
علمانية الدولة، أي فصل السلطة الدينية عن السلطات الأخرى، التشريعية والتنفيذية والقضائية مع احترام الأديان كلها وعدم التمييز بين فرد وآخر على أساس ديني، بل يكون الكل سواء أمام القانون فعلا وعملا وتنفيذا. وهذا طبعا يستدعي إلغاء المادة الثانية من الدستور المصري التي تنص على " أن الإسلام دين الدولة الرسمي والشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع" كما يستتبع هذا أيضا إلغاء الخط الهمايولي والشروط العشرة لبناء الكنائس.
تكوين مجتمع مدني ديمقراطي مثل المجتمعات الغربية المتحضرة.
ضرورة تدريس مبادئ حقوق الإنسان في كل المستويات التعليمية والمؤسسات العامة والحكومية.
تغذية الوعي الفردي بكل ما يساعد على ترجمة هذه المبادئ إلى ممارسات في الواقع الاجتماعي السياسي.
ربط احترام حقوق الإنسان وكفالتها على كل المستويات، بما يقدم لتلك الدول من معونات بواسطة الدول الغنية، وجعل هذه المعونات مشروطة " باحترام وكفالة هذه الحقوق".
تطوير نظام التعليم في مصر ومحو ثقافة الكراهية ضد الغير من الكتب المقررة في وزارة التربية والتعليم.
القضاء على الحركات الدينية السياسية المتطرفة وهي تعادل الحركات النازية وهذا ما سوف يشجع الاتجاهات الإسلامية التقدمية الليبرالية بما سوف يكون له اثر ايجابي على تقدم مصر كلها وتطور العلاقة بينها وبين العالم المتحضر المتقدم.
نأمل أن يتدارك كل محب لوطنه فيواجه التحديات ويعمل على إيجاد حلول لها دون أية حساسية من اجل مستقبل مصر ليسير الركب قويا متآزرا متضامنا متعاونا للنهوض بمصر لتصبح منارة للحضارة في الأسرة الإنسانية ولنبتعد عن الشعارات المزيفة مثل النسيج الواحد والقبلات والأحضان وسياسة الإنكار والتضليل.
حمى الله مصر وترابها وشعبها الواحد يستظلهم علم الهلال والصليب مثل أيام العهد الزاهر، أي قبل ثورة العسكر 1952.
د. سليم نجيب
دكتوراه في القانون والعلوم السياسية
رئيس الهيئة القبطية الكندية
عضو لجنة القانونيين الدولية بسويسرا
محام دولي وداعية حقوق الإنسان
قاض سابق
التعليقات