في ذكرى مجزرة صبرا وشاتيلا 17 أيلول من كل عام..


هل يستطيع إنسان خرج من الموت أن ينسى لحظات الموت؟

بالتأكيد لا، ولأنني رأيت الموت في صبرا وعرفته عن قرب في شاتيلا، وحملت علاماته التي حسبتها ساعة إصابتي من علامات
القيامة الكبرى والصغرى، حملتها على شكل شظايا سكنت جسدي، فمنها من تم انتشاله وانتزاعه واستئصاله ومنها من لازال يعيش حرا بين لحمي وجلدي في جسدي، بإقامة دائمة ودونما تصريح بذلك من صاحب الأمر..
لذلك فأنه من الصعب عل ى شخص عرف الولادة في مخيمين خلال 19 سنة من عمره، أن ينسى ولادته الجديدة من جديد في مذبحة العصر، وصعب أن ينسى الإنسان كل ما عاناه ويعانيه بسبب قتلة العصر لأجل عيون وخاطر السلام والعقلانية والواقعية الذين أوقعوا بعض رفاق المسيرة في مطب سلام الشجعان،حيث فقدوا سلامتهم وحصانتهم ومكانتهم وقد يفقدوا الآن حياتهم، لأن شارون لازال ثورا هائجا لم يجد من يوقفه عند حده.
يوم السابع عشر من أيلول كنا نجابه جيش الغزاة وعصابات الموت المحلية المتحالفة معه بما تبقى لدينا من إرادة، وكنا نعلم أنها مجابهة القوي ضد الضعيف، فكنا ضعفاء في التسليح والعدد والتقنية والعتاد لكننا كنا أقوياء بالإرادة التي لا تنكسر وبالمعنويات العالية التي خزناها من صبر أهل بيروت
ومن الحصار الطويل. كانت المخيمات الفلسطينيةالمتعبة بسبب ثلاثة اشهر الحصار والانتصار الذي نصفه انكسار، تنتظر ما سيحدث بعد مقتل زعيم اليمينيين اللبنانيين المتشدد بشير الجميل.وكنا بدورنا ننتظر لقاء الأعداء الذين كانوا بدورهم يعدون لسحقنا. ورغم أننا كنا بعدد أصابع اليد في كل محور قتالي يشرف على المخيمين، إلا أننا دافعنا عن سلامة بيروت وسلام المخيمات بكل ما أوتينا من بهجة ومحبة للموت كما الحياة.

المهم ان بشير الجميل قتل بأيدي شارون او أيدي غيره لا ندري، وأن الغزاة سوف ينفذون مأربهم، خاصة ان لشارون أحلام دموية لا بد ان ينفذها على الفلسطينيين وكل من يجده في الطريق إلى مخيمي صبرا وشاتيلا...

بدأت عملية الانتقام من بيروت الغربية ومخيماتها بصمت ودونما ضجيج،حيث وصلت الدبابات الى مقربة من المخيمات بدون ان تواجه في طريقها أية مقاومة منظمة، وكانت الطائرات الإسرائيلية تحرس السماء وتراقب الأرض من عل. وكنا نراقبهم عن قرب، حتى أننا في بعض اللحظات وصلنا لمسافة عدة أمتار من جنود الاحتلال الصهيوني، عرفنا أين هم وكم عددهم وعرفنا كم هي المهمة التي نحن بصددها صعبة وشاقة ومستحيلة، لكننا كنا نعرف انه ليس لدينا أكثر من صبرا وشاتيلا لحمايتهما من مذبحة محتملة. لذا كان قرارنا القتال حتى الموت دفاعا عن المخيمات و منطقة الفاكهاني التي كانت تعتبر معقل لمنظمة التحرير الفلسطينية في الشتات.

في تلك الأيام الرهيبة لم يكن الواحد منا يفكر سوى بإنقاذ أهله وشعبه من براثن الدبابات والجرافات التي أعدت لدفنهم أحياء تحت أنقاض منازلهم. وكنا نعي أن المسئولية كبيرة وثقيلة وأن القدرات محدودة. فنحن وحدنا بلا تنظيمات وفصائل وأحزاب وقوات عسكرية، شباب بعمر الورد، لا ظهر لنا نستند عليه سوى متاريسنا، قاتلنا حتى سقطنا الواحد تلو الآخر، ورغم ذلك لم يتمكنوا من دخول صبرا وشاتيلا من الناحية التي كنا نحرسها عند مدخل المدينة الرياضية والفاكهاني من الجهة التي تؤدي إلى جسر الكولا، ومن هناك كان معبر الناس للهرب من المذبحة نحو أحياء بيروت العاصمة.

الآن وبعد 22 سنة من إصابتي ومقتل واختفاء مئات الأبرياء من المدنيين وبعد أن أصبح مجرم صبرا وشاتيلا رئيسا لوزراء كيان الاحتلال أتذكر تلك الأيام بحزن و أعتبر نفسي وكأنني ولدت من جديد. فإصابتي كانت بليغة وصعبة وخطرة حد الموت، ونفس القذيفة التي أصابتني صرعت رفيقي محمد علي ابو الفدا، هذا الشاب اللبناني الذي قاتل حتى الشهادة. ونفس الذين أصابونا يمارسون الأجرام اليومي بحق الشعب الفلسطيني في مدنه وقراه ومخيماته المحتلة والمحاصرة. ونفس هؤلاء ارتكبوا ويرتكبون المذابح في مخيمات جنين وبلاطة ورفحوخان يونس وطولكرم والبريج والنصيرات.

عدت يا يوم مولدي، لتزيدني إصرار على متابعة المشوار، وسلوك طريق السلام الحقيقي الذي لا يأتي بالاستجداء بل بالعمل والمثابرة وتفعيل العقل وعدم الاستسلام أو القبول ببرامج الطغاة والغزاة.

* أحد ضحايا المجزرة، فقد ساقه وأصيب إصابات خطيرة ثاني أيام المجزرة الجمعة 17-9-1982 الساعة العاشرة والربع صباحا..