اطلعت وبتاريخ 21/9/2004 على خبر منشور على موقع " إيلاف " على الأنترنيت ويتضمن رسالة مفتوحة مرفوعة من طرف بعثيين عراقيين ( عضو فرقة فما فوق )، بينهم " خمسة قياديين "،الى كل من السيد رئيس الجمهورية والسيد رئيس مجلس الوزراء في الدولة العراقية.
ولنبدأ ملاحظاتنا مع ما جاء في الرسالة، حيث جاءت فاتحتها بـ " تحية عراقية صادقة "، والتي كنا نأمل ان تكون حقا " عراقية " و " صادقة "، ولكن عند اكمال قراءة الرسالة، سيتبين للقارئ أنها لم تكن " عراقية " ولا " صادقة ".

تبدأ الرسالة المذكورة بوصف القرار المرقم (1) والصادر في 16/5/2004، بـ " سئ الصيت "، الذي تم بموجبه إعفائهم من مناصبهم التي عشعشوا فيها اكثر من ربع قرن، بعد ان عاثوا في البلاد فسادا، وخلفوا لنا كل هذا الخراب، الذي يحتاج لسنوات طويلة من العمل الجاد والجهد المخلص لأعادة بناء ما خربوه، وشمل خرابهم حتى النفوس. وإضافة لذلك يتيمنون في رسالتهم بما كان يردده " طاغيتهم " عند تبريره لغزو الكويت من مقولة " قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق "، وهي مقولة حق يراد بها باطل، ويتشدقون بالأنسانية في وصفهم " كما يقطع السيف رقبة طفل عمره عام ونصف " ـ لله درك إنسانية البعث! ـ ويبدو ان اختيارهم " عام ونصف " ؟ هو لمرور حوالي عام ونصف على سقوط نظام حكمهم الديكتاتوري، الذي بسقوطه زالت كراسيهم، وانتهت مصالحهم، وحرموا من منافعهم.

ويشيرون في رسالتهم الى ان القرار المذكور ادى الى " إقصاء عشرات الآلاف من موظفي الدولة "، وأن القرار حكم على " عوائلهم بالضياع والتشرد " بدلا من توظيف تلك " الكفاءات والخبرات في بناء العراق الجديد ".

لنتفق اولا، اننا ضد ضياع وتشرد اية عائلة عراقية، وضد قطع أي رزق " حلال "، ومع الأستفادة من أي كفاءة عراقية " مخلصة " لخدمة هذا الوطن، ولكن لدينا العديد من الأسئلة لرافعي الرسالة وهم الذين حكموا البلاد، وكانوا يشكلون القيادات الحزبية في حزب البعث الفاشي، والذين اعتمد عليهم النظام المقبور في تنفيذ جرائمه.

ألم يكن للعراقيين الذين غادروا البلاد هربا من قمع واضطهاد حزبكم عوائل ؟، وهل فكرتم بتلك العوائل وما عانته من ضياع وتشرد ؟ هل فكرتم مرة واحدة بمصير الناس عندما شاركتم بأبشع جرائمكم في تهجير اكثر من ربع مليون عراقي بحجة " التبعية الأيرانية " و قمتم بسلب ونهب كل ما يملكون، حتى وثائقهم التي تثبت عراقيتهم، لابل اوغلتم في الأجرام اكثر عندما غيبتم الشباب منهم. وبماذا تفسرون موقفكم عندما هللتم وصفقتم لقرارا ت حزبكم اللأنسانية القاضية بمعاقبة اقارب معارضي نظام حكمكم الى الدرجة الرابعة، الم تكن هذه القرارات " سيئة صيت " ؟، أم انكم كنتم تتسابقون على " منصب " من سيكون اعلى صراخا في هتافه " بالروح بالدم...... "، ارضاءا وتزلفا لطاغيتكم ؟. وماذا عن ضحايا المقابر الجماعية، ألم تكن لهم عوائل ؟ أليس بينهم كفاءات، كان يمكن لها ان تخدم البلد ؟ وهل قام صدام حسين بتنفيذ كل الجرائم بيده، أم كنتم خير عون له ؟.

والعراقيون الذين توزعوا في ارجاء المعمورة، الذين جاوزوا الأربعة ملايين عراقي وعراقية، ألم يكن فيهم من الكفاءات التي كان يمكن ان يستفاد منها البلد ؟ لعلمكم يا سادة، غادر العراق خلال سنوات التسعينات اكثر من الف استاذ جامعي، وسبقتهم آلاف اخرى خلال السبعينات والثمانينات، ألم يكن هؤلاء كفاءات يمكن ان تخدم البلد ؟ أم انه اصبح في عرفكم ان هذا الوطن لكم وحدكم، لا يحق لغير البعثيين العيش فيه والمساهمة في اعماره واعادة بنائه بعد سنوات الخراب الذي حلت به طيلة سنوات حكمكم ؟ وأية كفاءات تتحدثون عنها ؟ أهي " كفاءاتكم " في نهب خيرات البلد ؟ أهي " كفاءاتكم وخبراتكم " في ترويع ابناء شعبنا، وتكميم افواهه، واجبارهم على الهتاف لطاغيتكم ؟ أهي " كفاءاتكم وخبراتكم " في سوق الناس لساحات حروبكم ؟ أما يكفيكم ما سببتموه من مآسي وويلات لهذه الشعب ؟ ألم يكن من الأنصاف والعدل أن تحيلوا أنفسكم على التقاعد ؟ أليس الأولى بكم ان تتقدموا بالشكر لقوات الأحتلال وللحكومة العراقية لعدم قيامهما بإعتقالكم أو تقديمكم للمساءلة القانونية لحد الآن ؟!
لقد كنتم طوال فترة حكمكم تأخذون ولا تعطون، فهل تريدون المواصلة والسير على هذا المنوال ؟

بعد ذلك نجد الرسالة تسند مضمونها بالأشارة الى ان قرار إقصاءهم، مخالف لقرار مجلس الأمن المرقم (1483)، وللمادة (21) من الأعلان العالمي لحقوق الأنسان، والمادتين (33) و (54) من اتفاقية جنيف. عظيم جدا!، ها انكم تعرفون وتفهمون حقوق الأنسان، وما تنص عليه المادة (21)، كذلك اتفاقية جنيف، فبالله عليكم ـ ان كنتم تعرفون الله ـ اما خجلتم من الأستشهاد بذلك ؟ اين كنتم طيلة كل هذه السنين ؟، حقا، انتم معذورون لأنكم كنتم مشغولين بالتطبيل والتزمير للطاغية المجرم، ونهب خيرات بلدنا والأكتناز على حساب شعبنا، فبنيتم العمارات، وحصلتم على الشقق السكنية، وملكتم السيارات، واستوليتم على المزارع، والفقير منكم حصل على الأراضي السكنية، ثم جئتم تتباكون في رسالتكم من ان رواتبكم الشهرية هي المصدر الوحيد لعوائلكم، من تقنعون بأكاذيبكم هذه ؟ لقد عشتم اكثر من (35) عام في الكذب والنفاق والدجل والتزلف، الا يجدربكم أن تعيشوا ولو لمرة واحدة لحظة صدق، فحبل الكذب قصير وان طال الزمن.

لقد غادرنا العراق ونحن شباب، وعدنا إليه وقد تجاوزنا الخمسين من العمر، من يعوضنا عن قضاء اجمل سنوات عمرنا مشردين في محطات الغربة ؟، من يعوضنا عن حرماننا لمدة اكثر من ربع قرن من العيش في وطننا ووسط اهلنا ؟، من يعوض امهاتنا وآباؤنا الذين عاشوا اواخر ايامهم وهم يتحسرون لرؤيتنا، وتوفاهم الله ولم تكتحل عيونهم بملامحنا ؟

ثم تأتي الرسالة الى مربط الفرس، فتشير الى ان " الحكومة المؤقتة بدأت بإجراء مفاوضات مع الجهات والفصائل التي رفعت السلاح في وجهها مقدمة العديد من التنازلات "، وهذه اشارة صريحة الى ان " مفيش حد احسن من حد " كما يقول المثل المصري، إذ اشارت رسالتهم بالتصريح وليس في التلميح، متضمنة لغة التهديد الى ان توجه الحكومة يشجع على " من يريد ان يرفع الظلم والحيف عنه والمطالبة بحقوقه المغتصبة ان يرفع السلاح ويتمرد لينال حقوقه "
فهذه اللغة " لغة التهديد " هي التي يجيدها البعثيون، فهم لا يحسنون غيرها.

نود التأكيد على ان هناك بعثيين لم تلوث ايديهم بدماء ابناء شعبنا، وانهم انتموا للبعث، ووصلوا لهذه المناصب القيادية، لكونهم انتهازيين ونفعيين ووصوليين، والجرائم التي ارتكبها البعثيون تتفاوت من بعثي لآخر.
وان بناء العراق الجديد يحتاج للجهود المخلصة، يحتاج الى ازاحة كل انتهازي نفعي ووصولي، وان البعثيين حكموا العراق اكثر من (35 عام)، وماذا جنت بلادنا وشعبنا منهم غير الخراب؟ اذا فليقفوا على الرصيف، وليدعوا مركبات الأعمار تمر وتسير وسط الشارع، ليتنحوا جانبا، وليتركوا ابناء العراق المخلصين يساهمون في بنائه. لقد اعطاهم شعبنا الفرصة، واساءوا له، واذا كانوا حقا " عراقيين " و " صادقين " فالأولى بهم، ان تصحوا ضمائرهم، ويطلبوا الصفح والغفران من الشعب العراقي، وأن يسبق ذلك، الأعتراف بما ارتكبوه من جرائم بحق ابناء شعبنا، وان يردوا للدولة العراقية أموال الشعب العراقي، التي اخذوها دون وجه حق، فعلى سبيل المثال لا الحصر، كانت قيادة النظام الفاشي تخصص مكارم، من ( القائد الضرورة )، عن المناسبات الوطنية والقومية لنظامهم تشمل كل الحزبيين من ( عضو فرقة فما فوق ) وهم رافعي الرسالة، حيث كانت تنزل في حساباتهم في المصارف مبالغ نقدية بمعدل (17) مرة في العام وذلك مكرمة!، علما أن المبالغ تتصاعد حسب الدرجة الحزبية. هذا طبعا اضافة الى قطع الأراضي التي تم توزيعها عليهم، والشقق السكنية والرشاوي والنهب والذي كانت مراكزهم الحزبية تشكل الغطاء له.

وكما ذكرت في مقال سابق، لم اسمع أو اطلع حتى هذه اللحظة، على اعتراف بعثي واحد يقر فيه بجرائمه ويطلب الغفران من ضحاياه، حيث لا يمكن ان تكون مصالحة بدون مصارحة، حيث سيكون شعار " المصالحة الوطنية " فارغا من مضمونه.

ولن اتجنى على احد، لو قلت و " رب الكعبة " ان البعثيين، لو عادوا للسلطة ثالثة، لسالت دماء العراقيين انهارا، ولجعلوا في كل مدينة لا بل في كل قرية، مقبرة جماعية، فهذا هو ديدنهم، فقد خبرهم شعبنا في مناسبات " عديدة. فما زالت دماء شهداء انقلاب شباط الأسود عام 1963 حارة، واكثر من ـ 263 ـ مقبرة جماعية تم اكتشافها لحد الآن، إضافة الى جرائم حلبجة الشهيدة، وضحايا التعذيب والأرهاب خلال فترة النظام الديكتاتوري المقبور، وعمليات الأنفال سيئة الصيت، وحملة تنظيف السجون شواهد على جرائم حزب هؤلاء الذين يطلبون اليوم من السلطات العراقية الجديدة إنصافهم، وهم المحملون بأثقال جرائمهم التي لا تزول بالتقادم أبدا.