بعد الإذن من حكيم العرب وبليغها الشهير " قس ابن ساعده الأيادي " أول من قال " أمابعد " استعير منه عنوان خاطرة السفر السابعة التي انثالت علي ضمن الخواطر التي أكتبها في إيلاف منذ أن عدت من رحلة الصيف مترجما بعض ما يختلج في النفس عبر هذه الخواطر التي ولدت في أحضان السفر وهاهي تنمو وتترعرع فوق أصداء إيلاف.
وبالمناسبة" قس ابن ساعدة" وأنا، ننتمي إلى المنطقة العريقة " نجران " مما يحق لي أكثر من غيري أن أستعير شيئا مما قاله هذا الحكيم الذي أعتز به وتعتز به نجران كواحد من أشهر بلغاء الأدب والحكمة والمعرفة الذين خلدهم التاريخ العربي.
ونجران: منطقة جميلة وكريمة بخيراتها الكثيرة، فما أن وطأت قدماي أرض مزرعتنا الصغيرة، حتى وجدت نفسي وسط عدد من صحون الفواكه والتمور التي تتميز بها منطقة نجران دون غيرها، وإذا " بدلال" البن العربي الأصيل تنفث روائحها الزكية " دلة " وراء " دلة " كأجمل ما يقدمه النجراني لضيوفه سواء أكانوا من نجران أم من خارجه.
لكن مشكلتي كلما ذهبت إلى هذه المنطقة الجميلة، التي أزورها"كمسقط رأس" من حين لآخر بسبب ظروف العمل التي أبعدتني عنها، أنه ما أن أدخل أرضها حتى أشعر وكأنني أملك الكون كله، حيث تستقبلني برحابة وحب لايضاهيهما شيء، لكنني ما أن أقضي يوما آخر حتى يلفني صمت عجيب، وحزن يثقل صدري.
أشعر أن هذه المدينة " نجران " التي تتوسد تاريخا طويلا يمتد منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة، وتمتد بمساحتها من الغرب إلى الشرق غير ملتفتة إلى غير الشمس. أنها كالأم الحزينة، التي فارقها أبناؤها دون علم منها وهجروها بعد أن زرعت لهم البساتين الجميلة، وشيدت لهم القصور التي تظللها النخيل الباسقات.
نجران: المدينة الوحيدة التي أشعر أن جبالها الشاهقة تخاطبني، وقد أخبرني بعض الأصدقاء من خارج نجران أنهم يشعرون بالرهبة والهيبة كلما دخلوا إلى أرضها.
و نجران لمن لايعرفها: تضم مدينة الأخدود التي وردت قصة أهلها في القرآن الكريم " سورة البروج "حين غزاها اليهودي " ذو نواس" من أرض الحبشة بقصد إرغام أهلها لتغيير دينهم المسيحي والعودة إلى الديانة اليهودية، لأن أهل نجران كانوا على دين موسى ثم عيسى ثم محمد عليهم السلام جميعا.
لكن أهل نجران أبوا أن ينصاعوا لأمر القائد اليهودي فحفر الأخدود لهم وخيرهم بين تغيير دينهم وبين إحراقهم أحياء، فاختاروا الموت شهداء على أن يغيروا دينهم وكانت المحرقة الأشهر في التاريخ.
وقد وصفهم القرآن الكريم في الآية " وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ". لذلك فإنهم من وجهة نظر مجروحة: أول شهداء في التاريخ دفاعا عن مبادئهم.
وللعلم: اليهود يعتبرون أنفسهم ضحايا " الهلوكوست " مجازر النازية. ويبتزون الغرب في سبيل الحصول على تعويضات مقابل ما أرتكب ضدهم من مجازر في عهد النازية ولهم الحق في ذلك. وأنا لا أؤيد أي إحراق أو استعباد ضد أي شعب، ألا أنني أعلنها لأول مرة أن أول "هلكوست " في التاريخ حدث ضد أهل الأخدود في نجران. ومن حق أهل نجران أن يطالبوا بتعويضات من اليهود كثمن لأول محرقة في التاريخ ترتكب ضد أناس أبرياء تمسكوا بمبادئهم فتم إحراقهم بشهادة القرآ ن الكريم.( قتل أصحاب الأخدود في النار ذات الوقود ) ( وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود ).
قلت لنفسي: هل لذلك التاريخ الموغل في آلاف السنين دور في صبغ نجران بهذه الهيبة التي تستقبلك بها جبالها الصلده؟!
هل لما حدث في الأخدود من تأثير على شخصية المكان الذي ما أن تصل إليه بشعورما، حتى تجد نفسك بشعور آخر في اليوم التالي، هل له دورفي غرس ذلك الشعور الذي يحتويني كل مرة أذهب فيها إلى مسقط رأسي ومنبت أهلي وعشيرتي؟! أم ماذا؟!
إن ذلك الشعور جعلني، أحزم حقائبي، واذهب مع أسرتي إلى المدينة التي أعمل فيها، بالرغم من خضرة البساتين، وروائح البن، ودفء حنان الأم، وكرم المكان، وترف الغذاء الذي تمنحه الأرض الطيبة.
ولا زلت حائرا كل مرة أذهب فيها إلى هذه المنطقة الجميلة، أبحث عن سبب يجعلني أقبل عليها بكل الشوق والفرح، وأغادرها مملوءً بالهم والحزن والصمت العميق.
إن منطقة شاسعة، وتملك إرثا تاريخيا عريقا، وإنسانا بصلابة الإنسان النجراني وكرمه وشهامته، لحرية بأن تقيم مهرجانا سنويا يحكي جزءا من تاريخها المشرف، وينبش في تراثها الدفين عن درر الفلكلور والأصالة،ويعيد إلى وجهها الحاضن للشمس فرحة غائبة. وينقل إنسانها الطيب الى واقع يشعره بحقه في الاعتزاز بنفسه وبواجبه نحو الانطلاق للمستقبل بهمة النجراني القوية، و بعقل ينتمي الى ثقافة القرن الواحد والعشرين. وذلك لايتم دون أن تتوفر لهذه المنطقة العريقة كل اسباب النمو الحضاري كالجامعات والمستشفيات ومؤسسات الفكر والمعرفة، التي تتناسب مع تاريخ عريق لأرض غنية بالكثير من موارد الطبيعة، والتراث، والأصالة.
إن منطقة بحجم نجران وبعمق تاريخها: تستحق أن تلبس ثوبا بحجم المكان وعمق التاريخ، وناصعا كنصاعة ذلك الإنسان الذي لايزال يتعامل مع الحياة ببراءته وعواطفه،أكثر مما يتعامل بعقله، بالرغم من امتلاكه ذكاء فطريا لم يستغل كما يجب، لأنه لم يمنح نفسه الوقت القليل كي يستعيد شيئا من ذلك التاريخ الذي أنجب "قس ابن ساعده "، وربما لأن هناك من اشغله عن استلهام التاريخ الحقيقي فاستلهم الألم!
سالم اليامي [email protected]
التعليقات