يتباهى البعض بكون الفضائيات العربية فتحت أعين المشاهدين العرب على العالم بأسره، فبدون الصور المتدفقة من الفضائيات الإخبارية العربية، لم يكن بإمكان فلاح من منطقة القصر الكبير المغربية أن يرى بأم عينيه طائرتين ترتطمان ببرجي مركز التجارة العالمي بنيويورك،وعراقيين يسقطون تمثال الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين في ساحة الفردوس،وطفلا فلسطينيا يقف أمام قافلة من المدرعات الإسرائيلية بينما يمتطي جورج بوش الابن صهوة حصان في منتجعه الريفي، لقد ساهمت هذه الصور المبثوثة بغض النظر عن كونها مسلية أو مؤلمة في الرفع من مستوى الوعي والإدراك المعرفي لدى المشاهد العربي، كما أذكت بعض البرامج الحوارية والتحقيقات الإخبارية التي تقدمها الفضائيات العربية جذوة الحوار والتواصل لديه، مانحة إياه فرصة إبداء رأيه في قضايا حساسة عجزت عن مقاربتها والخوض فيها السواد الأعظم من التلفازات الوطنية، هذه الآفاق الرحبة التي ولجها المشاهد العربي يراها بعض النقاد والمثقفين من منظار سوداوي، حيث يوجهون اللوم للفضائيات العربية في كونها خلخلت قيم المجتمع العربي،مؤكدين أن المشرفين على هذه الفضائيات يفرضون ذوقهم وقيمهم على الجمهور الذي قد لا يتفق معهم في ذلك الذوق وتلك القيم،وبأن أغلب الفضائيات العربية تقدم البرامج "الخفيفة التافهة" عوض البرامج "الجادة المهمة"،والقيمون على هذه الفضائيات من رؤساء تحرير ومقدمي برامج ومخرجين بدورهم يردون بأن هؤلاء النقاد والمثقفين المختصين في شؤون الفضائيات العربية لا يحيطون علما بالكيفية التي تنجز بها البرامج التلفزية، وبكونهم يجهلون الكثير عن أسس الإنتاج التلفزي في زمن الفضائيات والذي يلغي المسافات والآجال والتأخرات، ويمكن تلخيص جملة الحوار القائم في مجال هذا النقد، في تقديم الفضائيات العربية للمشاهد العربي منتوجا تلفزيا يفتقد الأصالة، كما أنها تقدم ما يعوزه المستوى الرفيع من الناحية الجمالية حيث لا تحاول إرضاء المثقفين على المستوى الفكري والجمالي من خلال تركيزها على الميلودراما القائمة على الصدفة والمبالغة والعنف،وعلى البرامج الهروبية الخيالية والتي تدغدغ أحلام الغنى السريع لدى المشاهد العربي، وعلى الرقص المبتذل والموسيقى الصاخبة والتي تشتهر بها الفضائيات العربية المتخصصة في الموسيقى، ثم إن هذه الفضائيات لا تفعل ما تفعل إلا من اجل كسب المال عن طريق الاشهارات التلفزية المتتالية،المكالمات والرسائل الهاتفية القصيرة التي تثقل كاهل المشاهد العربي، كما أن الفضائيات العربية تشكل مدرسة تفسد ذوق الجمهور العربي وتعمل على تكوين مشاهدين يسعدون بما يسلي من رخيص وتافه.

وقد يدل الواقع على صحة هذا النقد، فالكثير من الفضائيات العربية تفتقد في برامجها للأصالة، ولكن كم هي المحاولات الإنسانية التي يقوم بها الإنسان يوميا في العلم والرسم والقصة والمسرحية وتتميز بأصالة؟يعلم الجميع أن على الفضائيات العربية أن تستمر في العمل وتقديم ما يمكن تقديمه في مواعيد ألفها المشاهد العربي سواء توفرت الأصالة في برامجها أم لم تتوفر، فهي تواجه ضغط منتجي البرامج،إكراهات الوقت،كما يتحتم عليها ملء زمن غير يسير من شبكة برامجها،ثم إن مسألة الاختيار بين ما هو خفيف وما هو جدي من ناحية المحتوى أمر في غاية الصعوبة، ومع ذلك فمن ينكر أن هناك برامج رفيعة المستوى تقدمها بعض الفضائيات العربية "الكتاب خير جليس"
"روافد" "موعد في المهجر"...
الأكيد أن ما تروجه بعض الفضائيات العربية وخاصة المتخصصة في الموسيقى هو من قبيل العبث التلفزي،لكنه ليس مألوفا بأية حال في الفضائيات العربية تقديم برنامج أو مادة تشاهدها فئة قليلة،
وهناك من المشاهدين من لا يرضى الدخول في مجالات قد يراها المثقفون مفيدة وذات أهمية حيث سيبقى "مايريده" الجمهور حكما
بين يدي الذين يقومون بإنتاج البرامج وانجازها، وأخيرا فإن أغلب الفضائيات العربية توجد بأيدي الحكومات أو بأيدي الأثرياء العرب الذين يملكون وسائل عمل أخرى أكثر ربحا ومنتفعا ماديا و بالتالي فالهاجس المادي لا يعتبر العامل الوحيد الذي يحرك الفضائيات العربية،ويبقى النقد الأكثر قبولا للفضائيات هو القول أن بإمكانها أن تقدم أكثر مما تقدمه الآن في مجال رفع مستوى ما يراه المشاهد، ويمكنها أن تكون متقدمة على الذوق السائد لدى المشاهدين العرب الذي لا يمكن أن نتهمه بهبوط ذوقه عن مستواه بعد الانتشار السريع والواسع للفضائيات في كل بيت عربي.

[email protected]