فــضـيّق الحـبـلَ واشـددْ مـن خـنـاقـهـمُ فـرﱠبـمـا كــانَ فــي ارخــائِــه ضــررُ
(الجواهري الكبير)
اثارت مسألة عقوبة الاعدام ولا زالت تثير المزيد من الاهتمام ؛ ولا يقتصر الجدل الدائر حول هذه المسألة على الحقوقيين و علماء الاجتماع بل اصبحت موضع اهتمام دائرة واسعة من الاقتصاديين والسياسيين و الصحفيين والمختصين بعلم النفس الجنائي وحتى بسطاء الناس مما يؤكد مدى خطورة هذه المسألة واهمية البحث في جوانبها المختلفة. ولا يقتصر النقاش الدائر حول عقوبة الاعدام على منطقة محددة او فترة زمنية معينة وانما يمكننا تلمس عناصرهذا الجدل في مختلف بقاع الارض وخلال جميع مراحل التطوّر الانساني؛ وربما عثرنا على بدايات الانقسام حول هذه المسألة في الاثار التأريخية للمدن – الحكومات في اليونان القدية؛ ومعروف للمختصين بتاريخ الدولة والقانون الانشقاق الكبيرالذي احدثه الخلاف حول تنفيذ حكم الاعدام بسكان المدن التي انحازت الى العدو اثناء حروب الدولة اليونانية مع جيرانها؛ حيث توزع اعضاء الاجتماعات الشعبية (برلمانات) تلك المدن بين مؤيد لحكم الاعدام ومعارض له. وتكتسب مسألة حكم الاعدام اهمية استثنائية في ظروف العراق الراهنة حيث ارتفاع نسبة الجريمة المنظمة الى مستويات مرعبة وحيث يقوم الارهاب الدولي بتهديد كيان الدولة العراقية ومستقبل وجودها؛ بالاضافة الى وجود عدد كبير من المتهمين بارتكاب جرائم مختلفة يرقى الكثير منها الى جرائم الحرب و الجرائم ضد الانسانية؛ فيما ينتظر الكثير من المواطنين العراقيين بأمل كبير احقاق الحق واعلاء كلمة القانون وذلك بالقصاص من جلاديه وفي مقدمتهم المتهم الاول؛ الرئيس المخلوع صدام حسين التكريتي. ويجمع علماء القانون على اعتبار حكم الاعدام واحدة من اقدم العقوبات التي عرفها التأريخ البشري؛ اذ تشير اغلب الاثار القانونية الى ان اصل هذه العقوبة يعود الى تقاليد الثأر التي كانت منتشرة لدى جميع الشعوب؛ ولا يزال هذا التقليد منتشرا في الكثير من البلدان النامية؛ وربما كان العراق في مقدمة الدوّل التي عرفت انتشارا واسعا لهذا التقليد في تأريخه الحديث؛ حيث سعى النظام المقبور الى تهميش دور السلطة القضائية وابدال القواعد القانونية بالعرف القبلي وتشجيع القضاء العشائري (بمفهومه السلبي)؛ الى اخره من المضاهر السلبية التي ستكون معالجتها واحدة من اكثر المسائل الحاحا واكثرها حساسية على الاطلاق. هل تعتبر عقوبة الاعدام عاملا وقائيا يحد من ارتفاع نسبة الجريمة؟ و هل يعتبر تنفيذ العقوبة القصوى خرقا لحقوق الانسان ام انه واحد من اساليب الدفاع عن تلك الحقوق؟ ثم ما هي الضمانات التي تكفل عدم اساءة استخدام عقوبة الاعدام لتصفية الحسابات وخصوصا مع الخصوم السياسيين؟. تلك الاسئلة وغيرها اصبحت موضع خلاف بين الحقوقيين ورجال الدين والسياسيين والمهتمين بهذا الامر عموما؛ فقد ذهب فريق الى المطالبة بالغاء عقوبة الاعدام نهائيا معتبرين ازهاق الروح البشرية حقا الهيًا ليس للبشر دخل فيه؛ في حين اعتبر آخرون عقوبة الاعدام من الضرورات التي لابد من اعتمادها على الدوام للحفاظ على أمن الاكثرية ووقاية المجتمع من العناصر المجرمة؛ اما الفريق الثالث فيرى ضرورة التقليص التدريجي لهذه العقوبة ومن ثم الغائها النهائي. ويبدو لنا مستحيلا اختيار الرأي الاكثر اقناعا ؛ اذ ان الجميع يستند في محاججته الى قواعد دينية معروفة والى موروث كبير من الجهد النظري للفلاسفة والعلماء و من التراث الانساني العملي. على ان الجميع يبدون متفقين على ضرورة البحث اولا في الاسباب الكامنه في اساس اللجوء الى تحديد العقوبة القصوى؛ اي الجريمة. ومع اختلاف المدارس الفقهية في تحديد مفهوم الجريمة الأ ان الغالبية العظمى متفقة على انها (الجريمة) ضاهرة اجتماعية سلبية يتم تصنيفها على اساس حجم الضرر الذي يلحق بالافراد و الجماعات جراء ارتكابها؛ فكلما ازداد الضرر كلما كانت الجريمة اكثر خطورة؛ اذن فحجم الضرر وخطورته؛ سواءأً بالنسبة للافراد او للجماعات؛ هو الاساس في تصنيف المخالفات (خرق القواعد القانونية) الى جنح وجرائم جنائية وتصنيف الاخيرة الى مراتب مختلفة.
عند الحديث عن الجريمة والعقوبات المترتبة على ارتكابها لابد من الاشارة الى الترابط الوثيق والتأثير البالغ للنظام السياسي على مستوى الجريمة؛ حيث تشير كافة الدلائل الى انخفاض نسبة الجريمة في ظل النظام الديمقراطي والذي يُعتبر احد العناصر الرئيسية المميّزة لدولة الحق٭؛ فان مراجعة بسيطة لعدد الجرائم التي كان يعاقَب مرتكبها بالاعدام في الدوّل الاوربية خلال القرنين الثامن عشر و التاسع عشر تثبت هذه الحقيقة ( في فرنسا 158 جريمة؛ في المانيا 44 جريمة حتى عام 1872؛ في سويسرا 5 جرائم حتى عام 1852؛ في السويد 23 جريمة وفق القانون الجنائي لعام 1864 ) وقد شهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر الغاءاً لعقوبة الاعدام في الكثير من الدوّل الاوربية ( رومانيا 1864؛ ايطاليا 1890؛ هولندا 1870؛ البرتغال 1864 ). وتخلو القوانين الجنائية في الوقت الحاضر من اية اشارة لعقوبة الاعدام في الكثير من الدوّل ( فرنسا؛ سان مارينو؛ موناكو؛ البرازيل؛ استراليا؛ و24 ولاية من اصل 29 ولاية مكسيكية و 14 ولاية من الولايات المتحدة الامريكية). ومع ان بعض الدوّل ارتأت الابقاء على عقوبة الاعدام في تشريعاتها الجنائية الا ان هذه العقوبة غير مطبقة من الناحية العملية ( السويد؛ النروج؛ الدنمارك؛ سويسرا؛ الهندوراس؛ بنما ). اما في الدوّل النامية؛ وخصوصا التوتاليتارية منها؛ فان العقوبة ذاتها تتحوّل الى جريمة حيث توفر تلك الانظمة الظروف المناسبة لارتفاع نسبة الفعل الاجرامي واتخاذه طابعا جماعيا ومنظماً؛ وربما كانت الحالة العراقية مثالا صارخاً لذلك؛ ففي ظل حكم الحزب الواحد والعائلة الواحدة ومن ثم الفرد الواحد تحوّلت المنظمة الحزبية الى عصابة اجرامية واصبحت العائلة خارج القانون فيما كان الدكتاتور مجرماً محترفاً. ولا اعتقد ان هنالك ضرورة للتذكير بأن العراق كان يحتل مكان الصدارة في قائمة الدوّل المتميّزة بكثرة المواد القانونية التي تحكم بالاعدام؛ هذا بالاضافة الى ان قرارات الاعدام كانت تصدر؛ كما هو معروف؛ بمراسيم جمهورية وقرارات لمجلس قيادة الثورة وتلك اجهزة لا علاقة لها بالسلطة القضائية؛ مما يعتبر خرقا فاضحاً لابسط الشرائع السماوية والقوانين الوضعية والكثير من قواعد القانون الدوّلي الانساني وخصوصا المادة السادسة من الميثاق الدوّلي حول الحقوق المدنية و السياسية والتي اكدت على ضرورة اصدار الحكم من قبل السلطة المخوّلة؛ اي السلطة القضائية. اما العقاب الجماعي فقد كان نهجا ًفي سلوك السلطة البعثية البائدة وخصوصا ضد الاكراد ومواطني دوّل الجوار اثناء النزاعات المسلحة على الرغم من تحريمه دوليا ( المادة 87 من معاهدة جنيف الثالثة والبروتوكول الاضافي الأول )
ان المرحلة الراهنة التي يمر بها بلدنا والتي تتميّز بارتفاع غير مسبوق لنسبة الجريمة بكافة اشكالها؛ لهو نتيجة منطقية لاكثر من ثلاثة عقود من الحروب ومن الاجرام الرسمي المنظم؛ بالاضافة الى الجريمة الكبيرة التي اقدم عليها الدكتاتور ابان انهياره المريع و المتمثلة باطلاق سراح الالآف من اصحاب السوابق؛ اقول ان هذه المرحلة تتطلب التعامل بحذر شديد مع قضية بالغة الحساسية مثل قضية عقوبة الاعدام؛ اذ ان التعامل باستخفاف مع هذه القضية سيؤدي ؛ دون شك؛ الى الوقوع فيما يُطلق عليه بلغة القانون بالخطأ القضائي؛ حيث يتم تحميل الابرياء مسوؤلية افعال المجرمين وهذا ما لا يمكن ان يكون في دولة الحق. وعليه ارى ضرورة التريّث في اصدار الاحكام بالعقوبة القصوى لحين سن الدستور الدائم للبلاد وانتخاب اجهزة الدولة الدائمة وانتقال العراق الى الحياة الدستورية السليمة. وفي جميع الاحوال ينبغي العمل على تقديم المتهمين بارتكاب الجرائم الى القضاء والتأكد من عدم افلاتهم من العقاب العادل؛ اذ ان الرحمة في الحالة العراقية الراهنة قد تؤدي الى فقدان العدالة ذاتها.
٭ - اميل الى استخدام مصطلح دولة الحق بدلا من دولة القانون؛ لأن القانون الصادر عن الجهاز التشريعي للدولة الشمولية يكون بالضرورة منافيا للحق بمعناه الانساني وليس الشكلي- ( وفق نظرية الحق الطبيعي ).
التعليقات