غالباً ما تحسم الصراعات السياسية في عالمنا المعاصر بقدر تمسك هذا الطرف او ذاك من اطراف الصراع بالقيم الاخلاقية، حتى ولو تم اللجوء الى الاسلوب العنفي. بالطبع هناك عوامل أخرى تلعب دورها، ولكن عامل الدور الاخلاقي والمثل الانسانية يزداد تأثيراً في عملية الصراع وحسمه، بغض النظر عن الاهداف التي يطرحها كل طرف. ولنا في مثال الصراع الامريكي الفيتنامي احد الامثلة الحديثة على ذلك. فقد احرز الشعب الفيتنامي الانتصار على اقوى دول العالم عسكرياً واقتصادياً نتيجة لعوامل عدة بما فيها الدعم العسكري والمادي للاتحاد السوفييتي آنذاك، ولكن هذا الدعم لم يشكل الا جزءاً يسيراً مما كانت تتمتع به الماكنة العسكرية والاقتصادية الامريكية. وكانت العدة والعتاد الفيتنامي لا يشكل كماً ونوعاً الا شيئاً يسيراً قياساً الى ما تتوفر لدى الماكنة العسكرية الامريكية. ولكن مع كل هذا فقد فشلت الولايات المتحدة في كسب الحرب.
وهنا لعب العامل الاخلاقي دوراً هاماً في انتصار الشعب الفيتنامي على الغزاة من خلال الممارسة الاخلاقية في مواجهتهم بحيث كسبت هذه الممارسة احترام وعطف الرأي العام الدولي بما فيه الرأي العام في الولايات المتحدة الذي شكل عنصراً هاماً في كبح العسكرية الامريكية وردعها عن الاستمرار في حربها. فالقيادة السياسية الفيتنامية عبأت الشعب الفيتنامي كله ضد الغزاة وتجنبت الحاق الاذى بالمدنيين، وراحت حتى خلال فترة الحرب تبني المدارس والمستشفيات حتى وان كانت تحت باطن الارض من أجل الاستمرار بحصول الفيتناميين على قدر من حقهم رغم بشاعة وضراوة الحرب. وتجنبت قيادة الفيتناميين حتى الحاق الاذى بالمدنيين من الطرف الآخر، اي مواطني الولايات المتحدة، بهدف كسب الرأي العام العالمي وخاصة الامريكي الى جانب قضيتهم العادلة. فهم لم يستخدموا السيارات المفخخة وغيرها من وسائل التدمير ضد المراكز المدنية على الاراضي الفيتنامية او الامريكية، حتى انهم تجنبوا عملا قد يبدو تافهاً، وهو حرق العلم الامريكي، تجنباً للمس بالمشاعر الوطنية للامريكيين. ولم يقوموا بخطف المدنيين والصحافيين الامريكان وغير الامريكان الى حد أنهم تجنبوا الاضرار حتى بالاسرى والطيارين الذين يصبون جحيمهم على المدنيين العزل. وهنا كسب الفيتناميون الجبهة الاخلاقية في حين خسرها غريمهم الذي امعن في ايذاء الشعب وليس المقاتلين الفيتناميين وحسب.
ولنا في عالمنا العربي مثال آخر رغم مرارته. فالفلسطينيون الذين شردوا من أراضيهم لم يكن لديهم الفرصة لخلق قيادة قادرة على معاينة الوضع المعقد المحيط بقضيتهم العادلة، ولم يستطيعوا تحديد استراتيجية قادرة على كسب الرأي العام الدولي بل وحتى في البلدان العربية. واتسم نشاطهم بالاساس بالانفعال على المحنة التي المت بهم وغدا صراعهم عشوائي وخاضع لمزاج الدول العربية. وهكذا رأيناهم يوجهون نشاطهم ضد اهداف مدنية داخل وخارج الاراضي المحتلة، سواء عن طريق خطف الطائرات او التركيز على اهداف مدنية مثل الهجوم على الالعاب الاولمبية في ميونيخ او اهداف مدنية اسرائيلية في بلدان اخرى مما ادى الى عدم ظهور اي تعاطف معهم في دول يحتاج الفلسطينيون الى الرأي العام فيه لدعم قضيتهم. وعندما بدأ الفلسطينيون بدراسة الوضع المحيط وتعقيداته بموضوعية، وخاصة الفلسطينيين الرازحين تحت الاحتلال، بادروا باللجوء الى الاساليب السلمية في ظل توازن اقليمي ودولي عسكري ليس لصالح قضيتهم لو خاضوا الاسلوب المسلح. وهكذا اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الاولى السلمية بطابعها والتي استطاعت ان تجتذب الرأي العام الدولي بل وحتى اوساط من الاسرائيليين بشكل تدريجي وشرعوا بتعرية الاحتلال الاسرائيلي وممارساته لاول مرة امام الرأي العام العالمي. وهذا ما احرج المحتلين الاسرائيليين ودفعهم للبدء بالتراجع عن شعاراتهم التي تدعو الى اقامة دولتهم العرقية المزعومة من النهر الى النهر والى التعاطي جزئياً مع محنة الفلسطينيين وعلى مضض. ومن الالغاز التي سيكشف التاريخ عنها لاحقاً، أن هذه الاساليب السلمية الوحيدة الممكنة التي على الفلسطينيين اتباعها في ظل التوازنات العسكرية القائمة سرعان ما انهارت ليخرج علينا التطرف الديني الفلسطيني ويجر الفلسطينيين الى نقطة الصفر بل وتحت الصفر والى متاهات نشهدها الآن. وتلقف التطرف الديني الاسرائيلي هذا التحول لدى التيار الديني الفلسطيني المتطرف وكانت تلك فرصته الذهبية وشرع بقتل احد ابرز المحاورين الاسرائيليين، اسحق رابين، على يد احد المتطرفين اليهود والشروع بالتراجع عن كل ما احرزه الفلسطنيون من مكاسب كان لها ان تفتح الطريق امامهم نحو المزيد من تحقيق تطلعاتهم الوطنية. وهكذا التقى التطرف الديني في الجانبين ليجهزوا على العملية السلمية والدخول في النفق الدموي الذي لا يعرف نهايته سواء في الاراضي المحتلة او في عموم البلدان العربية والاسلامية.
ان تصدر التيار الديني الاسلامي المتطرف في ساحة الصراعات الاقليمية والدولية تحت ما يسمى بالصحوة الاسلامية وكأن العالم الاسلامي كان يدين بالوثنية، لم يقدم قضية العرب والمسلمين الى الامام قيد أنملة، بل وارجعها الى مادون الاصفار. ولو القينا نظرة على ممارسات هذا التيار في اراضي العباد الاخرى لشعرنا بحجم الكارثة التي احدثها هذا التيار لشعوبنا. ففي افغانستان تحولت هذه البلاد الغنية الى ركام ما بعد ركام وساحة لتصدير سموم المواد المخدرة وحضانة للتطرف والعنف والقتل مما اعاد البلاد الى دائرة التدمير والتخلف والفقر. ومن ثم اعقبها الفعل الرهيب لأولئكالارهابيين المتطرفين الذين ترعرعوا في احضان الارهاب الافغاني وبدعم اثرياء الارهاب في الخليج، هذا الفعل المتمثل بالهجوم على مواقع مدنية في الولايات المتحدة مما استنفر هذه القوة العظمى وحركت ماكنتها العسكرية والدبلوماسية مما ادى الى احداث اضرار مادية وسياسية ومعنوية بكل العالم العربي والاسلامي دون تفريق بين من ساند هذا العبث الديني المتطرف او من وقف ضده، والصورة ماثلة لكل من له بصيرة على حالنا وسمعتنا بين ابناء بني البشر. فصورتنا الآن تتحدد في صور الملثمين حاملي السيوف والخناجر الذين يقطعون الرؤوس والصواريخ والسيارات المفخخة ليجهزوا على فريستهم وغالبيتهم من المدنيين، كل ذلك يجري تحت سيناريوهات وشعارات ودعوات دينية غريبة ولم نسمعها في كل العهود المنصرمة، هذا الدين الذي أمر بالحفاظ على الطفل والمرأة والشيخ والشجرة حتى في معمان الحروب والمواجهات المسلحة.
ويتكرر مشهد نفس ممارسات التطرف الديني وعواقبه في بلدان أخرى ومنها العراق، هذا البلد الذي لم يكفيه ما عاناه في عهد التطرف القومي ليحل محله التطرف الديني بكل اشكاله. فهؤلاء المتطرفون الاسلاميون في العراق لا يشغلهم الاحتلال وعواقبه، والدليل على ذلك انهم يوجهون نار حقدهم وحملات القتل ضد العراقيين ومؤسسات عراقية بالدرجة الرئيسية. لقد فارق الحياة من العراقيين منذ انتهاء الحرب وحتى الان قرابة 15 الفاً من المدنيين بسبب ممارسات التطرف الديني. وأسهم هذا التطرف في خسارة تبلغ قيمتها حوالي 9 مليون دولار نتيجة للتخريب الذي احدثوه في المنشئآت النفطية العراقية منذ بداية الاحتلال ولحد الآن. وتتنافس عناصر متطرفة من كل الالوان الدينية في هذا السباق الهمجي لتدمير ما تبقى من البنية التحتية العراقية، فما يسمى بأنصار السنة والتكفير والهجرة وغيرها من الاذرع العسكرية لهيئة علماء المسلمين والمتطرفين الاجانب او من المتطرفين الشيعة من انصار ما يسمى بجيش المهدي والحواسم يتفنون في تعريض البلاد للدمار واهله للترويع والفتن. لقد تعثرت عملية البناء ومعالجة الوضع الاقتصادي المنهار جراء اجواء العنف والترويع التي اشاعوها في مناطق عديدة من العراق وخاصة العاصمة، مما حرم العراقيين من مساعدات جمة للهيئات والدول كان من شأنها ان تخفف الضائقة الاقتصادية والاجتماعية عن الملايين من الشعب العراقي. ولم يكن اهداف هؤلاء وضع نهاية للاحتلال، فممارساتهم عززت من رسوخ الاحتلال في البلاد، وغدا واضحاً ان كل همهم هو جمع الخاوات والفدية لكي يكتنزوا من هذا المال الحرام. والامر عندهم سيان فهم يخطفون العراقيين وغير العراقيين من اجل الحصول على الفدية والمال، ومن لا يدفع فمصيره القتل والذبح. وهكذا راح 12 من النيباليين المساكين ضحية لهذا الطيش والتطرف الديني لسبب واحد هو عدم توفر المال لديهم لاسكات هؤلاء الاشرار. فما معنا ان يقتل هؤلاء النيباليون الفقراء وهم ليسوا بعسكريين وبلادهم لا تشارك في قوات الى جانب القوات الدولية الاخرى؟ هذا العمل الشنيع الذي اثار رد فعل لدى النيباليين لكي يهجموا ويحطموا بدورهم كل معلم اسلامي في بلادهم. اذن من الخاسر من هذا التطرف الديني غير المسلمين انفسهم.
وما معنى ان يطالب المتطرفون بالتعامل مع قضية الحجاب في فرنسا ويحولوها الى قضية لتبرير خطف الصحفيين الفرنسيين، وبلدهم ليس لها اي جندي في البلاد. لقد تحولت مطالب المتطرفين طبق المعمول من قضية الحجاب في فرنسا الى طلب مئات الالاف من الدولارات كفدية مقابل اطلاق سراح الصحافيين الفرنسيين المسكينين اللذين دبجا المقالات ضد الاحتلال، وهما لو تخلصا من هذه الورطة فانهما سيبررا هذا الاحتلال جراء هذه الرعونة والمحنة التي يتعرضان لها. ان هؤلاء يتفنون في خلق الاعداء على شاكلة سيدهم المنهار صدام حسين. ان كل هذه الافعال تجري ولا تقوم هيئة العلماء المزعومة بالتنديد بهذا الفعل وهي تعرف منفذيه ومكان اختفائهم، فكاميرات التلفزة لا تتجه الا اليهم للتوسط والتدخل وايصال الفدية الى هذه الزمر.
وتتجسم لنا عواقب هذه الافعال عندما نشاهد ما يفعله المتطرفون في كل انحاء العالم وخاصة في العالم الاسلامي. ويكاد لا يمر يوم دون سقوط العشرات من الضحايا في مختلف المدن الاسلامية. ولعل فضيحة الرهائن الاخيرة في مدينة بيسلان الاوسيتية مثال آخر صارخ على همجية عناصر التطرف الديني. فما معنى وما جدوى ان يخطف المئات من الاطفال وعوائلهم المحتفلين باليوم الاول من العام الدراسي على هذه الشاكلة الوحشية؟ وهل هذا يخدم طموحات الشيشانيين نحو التمتع بحق تقرير مصيرهم، ان هذا الفعل يخرب القضية ذاتها ويضعها في طي النسيان حيث تتجه انظار العالم كله الآن نحو منظر الاطفال الذين تحملوا القتل والترويع وليس الى حقوق الشيشانيين. ان هذا العمل يصب في المسعى لتصوير شعوبنا وكأنها موجودات لا تعشق الحياة بل الدم والقتل والارهاب وبالتالي لا يكون لنا اي دور او مكان في عالم الفكر والابداع والاختراعات والاكتشافات والتحديث والادب والفن.
وتقع على عاتق كل من يدبج المقالت او يهيّء الشرائط الخبرية التلفزيونية او من يخطب في الجوامع والمساجد مسؤولية في ان يفكر في تبعات اي تأجيج التطرف الديني والتستر على المتطرفين بحجة مقاومة الاحتلال او التصدي لهجمات الخصوم. فمواجهة المتطرفين هذه دليل على الافلاس الاخلاقي والسياسي وليس له اي افق يخدم قضية العرب والمسلمين. فمواجهة هذه الحملات هي مواجهة بأدوات اخلاقية وباساليب اخلاقية وعن طريق حفظ الامن والسلامة لشعوبنا بالدرجة الاولى وعدم تقديم الفرصة تلو الاخرى للخصوم ولشعوب العالم بالايغال في ازدراء شعوبنا والامعان في تهميشها.
[email protected]