عندما يشعر الإنسان العربى بالضعف الفكرى ويعجز عن مواجهة مشاكله الحقيقية بأسلوب علمى، يلجأ إلى حائط المبكى العربى الذى يهرع إليه الجميع وهو الدين ليقمع به كل محاولة إبداعية لذاته وذوات الآخرين، الدين الذى يبيح الأنتقام وتوجيه الأتهامات للآخرين وسجن العقول وتقديم كل من يرفض الألتزام بقوانين وشرائع حائط المبكى المقدس إلى المحاكم الشرعية وغير الشرعية.
قرار وزير الإعلام المصرى الأخير بتشكيل لجنة تشرف على الدراما التلفزيونية المصرية يوضح دور الدين فى السياسة الذى يدعمه ويسانده النظام السياسى بهدف أستمرار جهل وتخلف المجتمع المصرى بالسير وراء حائط الدين وتمجيد دوره فى تخريب شخصية الإنسان المصرى الذى فقد هويته الحقيقية بتزكية نار النزعات والصراعات الدينية مما يعنى أن هناك أزمة واقعية يعيشها الإنسان المصرى يتواطؤ فيها الإنسان نفسه عن جهل مع عناصر النظام السياسى والدينى القائم.
إن الجهاز الإعلامى لا يتمتع بالحيادية لأنه ينفذ نزعات ورغبات وأفكار القائمين عليه بما يملكون من نزعات دينية مستغلين تنفيذهم الدعاية السياسية للنظام الحاكم مما يجعلهم يحظون بدعم الوزراء ورضى الدولة عنهم، أى أن الإعلام المصرى جهاز دعائى يردد أكاذيب المستفيدين منه القائمين عليه والمتعارف على صفتهم بأنهم أهل التحالف الدينى السياسى للنظام الحاكم.
عصرنا هو عصر حسم القضايا التى أصابت مجتمعاتنا بالتخلف والأستعباد الدينى للقيم الحضارية، ذلك الأستعباد والأستبداد الذى يعتبر كل ما هو خارج عن الدين فهو خارج عن القيم والطبيعة، وهى مفاهيم وتصورات خاطئة ظل المجتمع يتوارثها حتى يومنا هذا وأقحمها فى صلب فكره وحياته اليومية مما أدى إلى أحتكار الأديان لعقول البشر.
إن إقحام الدور الدينى بتصوراته السياسية أنتج نوعاً من البطالة العقلية لدى أفراد المجتمع المصرى، جعلهم يرفضون أستثمار طاقاتهم الإبداعية وفضلوا الهروب إلى الشكل الدينى يستريحون فى ظلاله هرباً من مواجهة الواقع والعمل الحقيقى مما يساعد على هجرة المواطنين بعقولهم إلى الغيبيات الدينية ليسكروا بنعيمها المنتظر بعد الموت.
إن قرار وزير الإعلام يعكس فلسفة إنتهاز الدين لقمع حرية البشر، لأن تأكيده على عرض المسلسلات التلفزيونية على مؤسسات الأزهر والكنيسة هو أكبر تراجع فكرى وأخلاقى لدور الإنسان ومسئوليته وإلتزامه بدور الضمير فى حياته اليومية، وإقامة ضمير خارجى أسمه الرقابة الدينية يتسلط على أفعال البشر.
بدلاً من تلك اللجنة التى قرر وزير الإعلام إنشائها، كان عليه أن يعلن أن حرية الإبداع متاحة دون قيود، وعند القيام بتقديم إبداع فنى له صلة بالأديان يتم الأستعانة بلجنة مشتركة من المسلمين والمسيحيين لتقديم المشورة والنصيحة حفاظاً على مصداقية العمل المقدم للجمهور المصرى وألتزاماً بحقوق الإنسان وحريته الدينية أو العرقية فى ظل وطنية الدولة المصرية وشعبها.
يجب أن يعمل الجميع على إندثار تلك العقلية الدينية التى تراقب أعمال البشر وتخلق وحوش آدمية يتفننون فى رقابة ومعاقبة بنى البشر الذين لا يعملون ولا يسلكون مثلهم، يجب أستيعاب الجميع لمفهوم أن اللغة الأخلاقية هى لغة عالمية لكن اللغة الدينية التى يتعامل بها المسئولين لخلق الصراعات هى لغة عنصرية لا تتناسب مع العصر والحضارة التى نعيشها ولا يجب أن نتركها تتحكم فى مستقبل أجيالنا، وأستمرار سياسة أستغلال اللغة الدينية فى التعامل مع المواطنين هو العبث بعينه، وهو أستمرار لتغذية المشاعر الدينية ضد وحدة الوطن والمواطن بتغلغل الأمتيازات الدينية للأغلبية فى وسائل الإعلام.
عندما تعترف الحكومة علانية بأن عصرنا الحديث يحتم علينا فصل الدين عن الدولة وأن يعمل النظام على أندماج المواطن فى الوطن دون تمييز بين دين وآخر كما هو واقع فى دستور مصر الذى ينص على أسم دين الدولة مما يعنى عنصرية الفكر والمشاعر الإنسانية الغالبة فى المجتمع المصرى، ساعتها يمكن للوطن المصرى الإستيقاظ من غفوته التى غيبته عن دوره الحضارى فى إنسانية اليوم، وعندما تحتوى المواد التعليمية ثقافة رقابة الضمير الداخلى ورفض رقابة رجال الدين الخارجية، يمكن للإنسان المصرى أن يرتقى بثقافته وفنونه وعلومه وآدابه وأخلاقه، ويستطيع المواطن أن يخرج من دائرة الطفولة العقلية إلى مرحلة الرشد والنضج البشرى.
ميشيل نجيب