وقف مقدم المسرحية على منصة المسرح في شارع السعدون ببغداد وصاح بعد أن بسمل:
صلوا على محمد وآل محمد.
الجمهور – اللهم صل على محمد وآل محمد
ثانيا رحم الله والديكم:
الجمهور – اللهم صل على محمد وآل محمد
ثالثا غفر الله لكم:
الجمهور – اللهم صل على محمد وآل محمد
أيها الجمهور الكريم .. والآن تشاهدون مسرحية (الشهيد مسلم بن عقيل):
الجمهور – اللهم صل على محمد وآل محمد

هكذا بدأت مسرحية ( مسلم بن عقيل) حيث بدأ الممثلون وكلهم من الذكور يؤدون أدوار مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وعبيد الله بن زياد و شريك والمختار وحجار بن أبجر، والشمر بن ذي الجوشن، وكلما ورد إسم الحسين عليه السلام هب الجمهور بالصلوات. الممثلون بدون ماكياج حيث أطلقوا لحاهم وشواربهم لأنهم أصبحوا من التيار الديني الذي يسود الشارع العراقي والبيت العراقي وكلهم كانوا من اليسار العراقي في السنوات السابقة، ولكن هذا اليسار الذي سقط برنامجه السياسي تحول مريدوه إلى التيار الديني الشيعي والسني فصرت إذا حالفك الحظ ودخلت بيتا لصديق فإنك ترى صورة العباس عليه السلام على فرسه وإلى جانبها صورة السيد السيستاني دام ظله الشريف حيث حلت صورة السيستاني والخامنئي بدل صورة كارل ماركس .. وما الفرق بين هذا وذاك إذا كانوا جميعهم ملتحين!؟
أكتب لكم عن هذه الثقافة وأنا عاشق للحسين عليه السلام ولنبله وصفاء وجدانه وشجاعته وصبره وهو حفيد الرسول محمد (ص) نبينا الطاهر الجميل، ولكن للمسرح قوانينه لا يجوز الإعتداء عليها ولحرية التعبير قدسيتها مثلما للحسين (ع) قدسيته، فلا يحق لفئة دون أخرى أن تستأثر بالثقافة وتمحو الآخر وثقافته وتمنع نشر صورة فتاة على علبة حلويات وإلا فما معنى وقوفنا بجدارة وكبرياء ضد همجية عدي وصدام حسين وقصي ومن شابه هذا التشوية الخلقي والنفسي .. لماذا رفضناهم إذاً ونحن نضع بدائل أكثر تخلفا في قوانين المسرح والثقافة في العراق !؟
لو نظرنا إلى تكوين وزارة الثقافة في العراق ومبررات وجودها بعد سقوط التمثال في ساحة الفردوس في التاسع من أبريل عام 2003 لوجدنا أن المبرر الوحيد لم يكن هو الشأن الثقافي ولا ثقافة العراق ولا حضارته ولا حاضره وغده، إنما كان مبرر إنشاء وزارة الثقافة وتعيين أيا كان من الحزب الشيوعي العراقي هو مسألة سياسية في تقاسم الحصص السياسية، فكان نصيب الشيوعيين بقدر حظهم السياسي وحجمهم من منظور أن الثقافة شأن هامشي فلتكن من نصيب الشيوعيين تماما مثل ما نظر عبد الكريم قاسم لهم فأهداهم وزارة البلديات التي فجرت الصراع النكتوي بين الأحزاب، فهتف الشيوعيون في الشوارع والمسيرات (نزيهة صارت بالحكم موتوا يا بعيثيه) ورد البعثيون (نزيهة صارت بالمجاري هلهلوا الميكم الجاري) !
اليوم يأتي منح وزارة الثقافة للشيوعيين من قبل السيد بريمر ممثل قوى التحالف التي حررت العراق، فجاء الوزير شيوعيا ووكيل وزارته من المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق ومديره العام بعثي سابق. يأتي هذا التنوع الموازائيكي بعد مداولات مع المستشارين العراقيين الستة الذين جاءوا مع قوات التحالف، الأول شاعر من لندن والثاني قص وروائي من السويد والثالث مذيع من المملكة السعودية والرابع صحفي من هولندا والخامس أكاديمي من أمريكا والسادس مسرحي من أمريكا أيضا! قدموا مشورتهم للسيد بريمر وتم تشكيل وزارة الثقافة العراقية.
فما هو موقف وزارة الثقافة هذه من المثقفين والثقافة العراقية؟
نشرت صحيفة الغارديان صورة مأساوية مرفقة بتقرير مطول مرير لكاتبه عن مدينة بابل التأريخية وجانبا من إرثها الحضاري وتماثيلها التي أحيلت إلى قشرة متساوية مع الأرض حيث سحقت الدبابات الأمريكية والبريطانية سوية تلك النصب الحضارية لتحيلها ترابا تضعه في أكياس كمتاريس للموقع العسكري يحتمي بها جنود التحالف والتحرير، فلقد نفذ تراب العراق ورمله من كثرة المتاريس في الشوارع والساحات .. نفذ حتى التراب المحاط ببابل التأريخية الحضارية فلجأ الجنود الأمريكيون لكي يطحنوا نصب نبوخذ نصر وحاشيته وجنوده من أجل عمل المتاريس .. لا يا سادتي الأفاضل، هذا الفعل هو الإنتقام من نبوخذ نصر في حادثة السبي البابلي، هذا رد على أسر(ميشخ وشدرخ ودانيال وعبد نغو) الذين أخذهم نبوخذنصر من أورشليم القدس 597 قبل الميلاد. فلا تزال حادثة السبي في ذاكرة اليهود ولا تنمحي ولذلك عندما أعلنت ساعة الصفر لإسقاط نظام الطاغية صدام حسين كهدف معلن وإسقاط العراق كهدف غير معلن أقيمت الصلوات في كل السيناكوك في العالم وتليت صلاة واحدة مطلعها (أيها اليهود تستطيعون الآن أن تناموا مرتاحين فإن بابل تقصف)!
لقد سكت الجميع عندما داست الدبابات تماثيل نبوخذنصر، ولو حدث أن ديست كرامة لوحة لرسام يهودي هاو في معرض للرسم في بلد ناء بعيد مهمل لبقيت الصحافة والتلفزة تكتب وتحتج قرونا من الأزمان ولكن أن تحصل جريمة تأريخية بحق بابل العظيمة فإن وزير ثقافتكم ساكت خائف على ذلك الكرسي اللاصق على مؤخرات الحاكمين العرب. لم يبق بينك أيها السيد الوزير وبين نهاية وظيفتك الطارئة سوى عشرة أيام بين الحادث والإنتخابات .. أما كان الأجدى لك أن تقدم إستقالتك من هذا المنصب الطارئ .. بابل العظيمة تسحق آثارها وتتحول إلى متاريس للجنود اليهود في قوات التحالف بأمر من قادتهم وأنت باق ساكت مستغفل غافل (لكم ما تستحون .. ما عدكم غيرة .. ما عدكم ذرة من شرف .. ما عدكم نخوة .. ما بقه شي!؟ ولاشي؟ أبدا؟!)
ليس للثقافة ما ينقذها سوى أهلها وهم مدانون أيضا وبشكل خاص المثقفون الذين يعيشون خارج الوطن والذين يبلغ عددهم الآلاف ويقال ثلاثة آلاف الذين لم يسقط منهم سوى الستة، فالمثقفون الذين يعيشون داخل العراق والذين عانوا من ويلات الدكتاتورية يعيشون حالة من العوز والتعب والمرض وساعدهم الله وكان في عونهم والله، والعتب العتب على كل المثقفين المتواجدين خارج الوطن، أنهم لا يبادرون لتشكيل تيارهم الثقافي الوطني الذي يرفد أحبابهم في العراق بمقومات الديمومة والبقاء وبمقومات النهضة والقوة التي تحركهم ويكونون قادرين على المشي للوصول إلى مقر الأدباء لحضور أمسية شعرية أومحاضرة في مقر الفنانين! أن ترفدوهم بالقوة وأن تشكلوا لجنة الإحتجاج على سحق تراثكم وتأريخكم وإعلان الجريمة التأريخية للبشرية التي سوف لن تلتفت أليكم وأنتم غير مجتمعين، ولا تيار. هذا تأريخ سادتي. هذا تأريخ لا يرحم .. الوقفة الشريفة تنتظر من يقفها. الصوت الشجاع ينتظر من يعلنه. الوطنية التأريخية تنتظر من هو جدير بها.
أيها المثقفون العراقيون أنتم حقيقة قسمان مثقفو الداخل ومثقفو الخارج، ولكل فئة ظرفها الموضوعي والتأريخي المختلف وتعيشون الآن ظروفا ثقافية وإجتماعية متباينة وذلك منعكس بالضرورة على طبيعة نتاجكم وروحه وطعمه ومذاقه وترفه ومعاناته .. لا تنكروا هذا الواقع ولكن العلاقة التي تربط بين ثقافتين هي العراق وهي الوطنية وهي المسار نحو الغد الذي لن تعود فيه ثقافة تسمى ثقافة الداخل وثقافة الخارج .. مطلوب خلق التيار لثقافة العراق داخل العراق وخلق التيار لثقافة العراق خارج العراق وتشكيل أطر التنسيق بينهما لخدمة الوطن وثقافة الوطن حتى لا تتحول مسرحية مسلم بن عقيل إلى صلوات وتصبح مسرحية خالية من مضمونها ولكي لا تداس في ذات الوقت كرامة التاريخ وعظمته بجنازير الدبابات الاتية من وارء البحر الأحمر ولكي لا يهجم الهمج على صورة فتاة مرسومة على علبة الحلويات .. بدون الثقافة الحقة وبدون التيار الثقافي المعلن والمسمى سوف تقرأون وبوعي تام سورة الفاتحة على عراقنا الجميل والجريح!

كاتب عراقي مقيم في بانكوك