تبقى عدالة السماء حلم المُخلَصين( بضم الميم وفتح اللام) والأتقياء والأبرار، للبشرية جميعاً. لكي يعم السلام والتآخي بين بني البشر. هذا المعنى ما يوحي اليه مقال الدكتور رشيد الخيون، المؤرخ المبدع. المنصف لرأيه دائماً، المجحف للدين كنص وكفكر. حيث ليس للدين من ذنب، بارهاب فكري جاء باسمه. بكل ما ذكره الدكتور من خلال دراسته المفيدة للتأريخ. وعبر مقالين مشبعين بمواد تأريخية تنتصر للدين وليس للعابثين به عكس ما أراده، وليس لرأيه الذي يريد أن يعزل به المجتمع عن الدين، وليس فصل الدين عن الدولة. ومقالات كثيرة نشرت على موقع ايلاف الموسوعة بحق. والذي يمتلك مساحة من حرية الرأي والفكر، ما لم تهيأه أكبر دول العالم ديمقراطية اليوم. وتعطي من مساحة الرأي مثل ما تعطيه ايلاف.
ولكي أوضح للقارئ الكريم قصدي ولا أدخلهم في دوامة النقد والتفكير. فهذه اسرائيل أثرت على كثير من أنظمة العالم الحرة. عندما وضعت سيف العداء للسامية فأخرجتها من سيرتها الأولى.
لكنك تجد في ايلاف ما يحلو لك أن تكتب، شرط الألتزام برأي الآخر وعدم استفزاز مشاعر الآخرين. لتبقى ايلاف منبع يرتشف منه الجميع زلال الحرية. وكنز يغرف منه القاصرون فكرياً. ومحك يكشف من خلاله الطفيليين على الحضارة والكتابة والفكر.( وهنا لاأقصد الدكتور خيون لاسامح الله فهو عراقي ومن حقي أن أفتخربه وبقلمه في وقت يعز علينا أن نفرط بمثل هذا القلم الرائع ونحن محاطين بالحيتان البشرية. فلكل رأيه فيما يعتقد).
فالدكتور الخيون ـ وأقولها للأسف ـ كرس جهده الجهيد، لأثبات عجز الدين عن قيادة الحياة. والتي يمثلها هو بالدولة. ليثبت للآخرين ضرورة فصله عن الدولة الحديثة. ولكي يثبت ذلك فهو يتجاوز مفاصل زمنية منيرة للبشرية جمعاء، أضفت على الحضارة الأنسانية أسس تقدمها العلمي وتطورها التكنولوجي الحديث. فتراه يبحث في مذاهب غالبا ما صنعها أعداء القرآن والأسلام. ودول وامبراطوريات، شوهت صورة الأنسانية قبل أن تشوه صورة الدين. ولم تكن هذه الوجودات إلا افرازات لتناحر الطامعين علىالكرسي فيما بينهم، لينتجوا دينا على مقاساتهم. وأكثر من ذلك يأتوا ليكتبوه تأريخا أضفوا عليه صفة الأسلام. ويعرف وهو المؤرج المحترف والكاتب المثابر، أن جل التأريخ كتبه جلادوا شعوبنا الأسلامية باسم دين سموه اسلاما، ليحكموا لا ليكونوا خدما للأنسانية وأمناء على تبيق دين الله. الذي اراد ه رحمة للعالمين.
وهذا ما نراه اليوم أيضا في سلاح الديمقراطية الذي بدأ يظهر بعد سقوط العملاق السوفييتي، الذي حورب، بعد أن اتهم هو الآخر بنحر الديمقراطية. ونرى اليوم دعات الديمقراطية يغزون العالم باسمها. والتبشير بها ولكن على مقاساتهم التي يريدون، تماماً كما فعل طغاة الأمس، الذين نحروا الأسلام باسمه، وضنوا أنهم مخلدون.
فلايمكن ان نحمّل الأسلام، ذنب كل من أذنب باسمه. فحوله سلما يرتقي به مراكز الجاه والسلطة والثراء. فحتى صدام تغنى باسم الأسلام، وأسس لحملته الشيطانية باسمه. وما اشبه اليوم بالبارحة يا دكتور خيون.
لهذا راح الدكتور الخيون سلمه الله، يسبح في بحار التأريخ العريضة، راكباً زورقه المصمم من روح الحداثة التي ترفض الدين. ومجاذيف يشق بها عباب بحر الكتاب التأريخي، لاالمعرفي. وهي بذات الوقت، يراعه الذي يخط به بعد أن يختار. فيكتب عندما يلوح له لون الدم باسم الأسلام، ويشم عفونة الحاكم، وصفرة الوجوه المتعبة باسم السلام. لكن ما أن تصادفه جزيرة شع منها نور معرفي حضاري، انحرف عنها بمجذافه، نحو عتمة يغذيها نور قمر. حيث التأريخ فيه مكتوب بحروف كبيرة، لتراها عيون الذين أعمى الحكام بصيرتهم، ليغضوا النظر للعلوم التي كتبت باحرف من نور صغيرة، في سراديب العتمة بعيداً عن عيون السلطان، حيث كانت مجبرة وقت كتابتها.
وكأن الدكتور يجهد نفسه باحثاً عن عجز الحكام عبر التأريخ الذي يريد سبر أغواره، ليصطاد خطأ هنا وجريمة هناك ارتكبت باسم الأسلام ليسقطها عليه، تماماً كما فعل المستشرقون الأوائل. الذين زارونا ضيوف ليسودوا وجه تأريخنا، استعدادا لغزوٍ عسكري استيطاني. فيفرضوا الجهل علينا ثم يعرفونا بديننا الذي يريدون أن يفهموه لشعوبنا، كما يريدوه هم لاكما يريده القرآن.
لكن الدكتور للأسف نسي أنه ذكر لنا في أحد مقالاته، وهو يتكلم عن الدولة الفاطمية:لا أتذكر النص ولم احتفظ به للأسف إلا معناه الذي كان يقول ( أن لو بقيت هذه الدولة الفاطمية، لما استورد العرب حاجاتهم من الخارج، من الأبرة حتى الطائرة) لكنه يبدو أنه تذكر واستدرك هنا في هذا المقال ليقول: (فالفاطميون حكموا مصر والمغرب لقرون وظهر في سيرهم العنف والجور، رغم ما تقدموا فيه من علوم وصناعات، وخلفوا من الآثار الفنية والعمرانية ما خربه بعدهم صلاح الدين الأيوبي، الذي جمع بين الجور والسلفية جمعاً خانقاً) وهنا جنى على نفسه دون أن يشعر حيث كان مقاله أنذاك وعلى ما اتذكر نقد للأرهاب باسم الأسلام، ويبدو أنه كان ينطلق من موقف طائفي. في حين يذكر لنا التأريخ بأن الخليفة الفاطمي المستنصر بالله، جلس على باب قصره عارضا مجوهراته للبيع لإطعام شعبه. وأن السمر والهدوء الذي يمتاز به شعب مصر جاء من زمن الفاطميين، لما كانوا يتمتعون به من المساواة بين الرعية، وكيف أن المذاهب كانت تعيش حياة المؤاخات والود. هذا إذا عرفنا أن الحكم الفاطمي لم يكن اسلامياً بالمعنى الحرفي للأسلام الأصيل.
وقد كتب قبل عام تقريباً وعلى ايلاف نفسها، ليشرح لنا طريقة سمل العيون وقطع الرقاب، ونسج المؤامرات التي كانت ثقافة عربية عبر التأريخ الأسلامي، ليس للأسلام فيها من دور.
للأسف يدأب الرافضون للدين والمصرون على فصله عن الدولة، وهم بهذا يريدون فصله عن المجتمع. فلا يمكن لمجتمع مسلم مؤمن متدين أن يمارس السياسة بغير دين. ولا يمكن لدولة أن تحتقر شعبها إن هي اقتصرت السياسة بالسياسيين التقليديين، بحجة أن الدين تقديس، والتقديس يفرض على الرجل حالة من الأستبداد. وهو لا هذا ولا ذاك.
لقد تعب الدكتور وهو يخلط بين الأديان، ويتعامل معها وكأنها مادة واحدة. لهذا تجد بحثه التقاطي مزاجي، بعيد عن العلمية. فغالبا ما يركز على ممارسات جرت باسم الدين. ولم يكن بحثه بحثاً علميا اكاديميا يساوي فيه بين النظريات الوضعية والفكر الديني. وبين التباينات بين دين وآخر. وأكثر من ذلك، لم أقرأ له وهو يكرر خطابه ضد الدين، أن مر على كتب الشهيد محمد باقر الصدر، أو كتب الشهيد مطهري أو الشيخ محمد حسن كاشف الغطاء، أو حركة وفكر الأمام الخالصي الكبير، أو السيد عبد الحسين شرف الدين، او المصلح جمال الدين الأفغاني. ولم يذكر لمحمد عبده إلا ما فسره على مراده.
ولنترك هذه القبضة المنيرة ولنسأل الدكتور لماذا ابتعاده عن نهج البلاغة وعلي ابن ابي طالب عليه السلام عدل القرآن. ولم يذكر لنا كيف اعتمدت مفوضية حقوق الأنسان في الأمم المتحدة رسائله عليه السلام في الحكم الى مالك الأشتر، وضمها للعهد الدولي لحقوق الأنسان، ألم يكن الأمام حاكما؟ وحكمه الذي لم يمر بعده حكم. ولماذا يتجاوز حياة عشرة أئمة معصومين أسسوا لحضارة العالم، سواء كان عن طريقهم أو بدافع المزايدة عليهم، حيث يذكر لنا جابر العابدي المفكر العربي المعروف، بأن العباسيين، لم يكونوا قد قربوا العلماء وأسسوا دورالعلم والمكتبات حبا بالعلم، بل للوقوف بوجه أئمة المسلمين عليهم السلام. ويعرف الدكتور كم كان مؤثر فكرهم على العلوم البحتة حتى. فجل علماء العلوم البحتة تلاميذهم. وقد اسس الصادق عليه السلام لعلم الكيمياء والفيزياء. وأشرفوا على علوم الطب والرياضيات.
مقالات الدكتور طويلة للأسف، ولهذا فقد ورط نفسه بذكر كتب الحديث التي لاتصلح وحدها للتنظير لتأسيس دولة. فهي مصدر من مصادر التشريع وليس المصدر الوحيد، لايؤخذ منها بالمزاج كما يفعل. بل لابد من وضعها تحت آليات الأجتهاد وعلم الأصول، التي هي حلقات مترابطة يكمل بعضها بعضا. توزن بميزان العدالة، والقرب من الله بسعادة البشر. وليست تقنين للعبادات تفرض على البشرية فتأتي مردوداتها عكسية على الدين والمجتمع في آن. فتفتح حدود الشريعة لمن هب ودب، ليقتل باسم الدين وينتهك الحرمات، ويسرق المال العام باسم الدين.
انظر عزيزي القارئ، كيف يخرج الدكتور بخلاصة بحثه ليقول: (فالحاكم وكيل وحفيظ ومسيطر وليس مذكراً ولا مبلغاً. وهناك نص نبوي يشير إلى حقيقة أن الإسلام رسالة وليس دولة أو حاكمية.) لاأدري بماذا أعلق على هذا القول يا دكتور، إلا أن أرد عليك، بأليس الدولة والحاكمية رسالة يجب أن يلتزم بها الحاكم، ورئيس الدولة؟ وهل يجوز للحاكمية والدولة أن لاتلتزم برسالة تحمل بين ثناياها، قوانين مفعمة بقيم الأنسانية، وعدالة السماء الذي أسميتها حلما.
ولكن انظر يا دكتور ماذا يقول المفكر الأسلامي الرائع غالب حسن الشابندر في مقال له على ايلاف نشر بتأريخ GMT 15:45:00 2004 الخميس 2 ديسمبر (الذات الهجينة هي التي تفسِّر كتاب الله! ) الذي حسب علمي به، لايطالب بدولة اسلامية ماذا يقول (القرآن يجيب عن سؤال كبير، بل أسئلة كبيرة، هذه الأسئلة تتعلق بالوجود، أصله، غايته، صيرورته، كذلك بالقضية الكبرى التي هي الإنسان، والحياة، والقيم، وغيرها من المشاكل الوجودية الضخمة، وبالتالي هو جسد ثقافي، فيه فلسفة، وفيه قيم، وفيه أخلاق، وفيه تاريخ، وفيه أحكام، وفيه أخبار، وفيه سجال، وفيه حوار، وفيه وصف... والآية التي هي بين فاصلتين تشكل وحدة معرفية في هذا الجسد، هنا آية ذات حمولة عقيدية، وأية ذات حمولة أخلاقية، وأية ذات حمولة قانونية، وهكذا، وإذن، الآية وحدة معرفية في جسد معرفي ثقافي، هو القرآن الكريم.) لذلك يا سيدي، نحن لانريد دولة اسلامية تقنن الدين لسلب حرية الآخرين. ولكن لابد للدين من أن يأخذ دوره في الدولة، من حيث التشريع بما هو في خير الأنسان، ومن حيث العدالة بما يضمن الحقوق للجميع، ومن حيث الرسالة بما تحقق الفوز بالجنة لمن يؤمنون بها. أما فصله عن الدولة يعني منع المؤمنين بالأسلام، من أخذ دورهم كعناصر فاعلة لتحقيق العدالة الأجتماعية، ورجال حكم يحكمون عندما تحملهم صناديق الأقتراع للحاكمية، وفق ما يريد الشعب عبر صناديق الأقتراع أيضا. وبالتالي فلا يريد الأسلام والأسلاميين، أكثر مما جاء في عنواني مقاليك، وهو الحلم بعدالة السماء الذي لاتدانيها عدالة. ودولة عراقية، تحقق لنا مصالح البشر التي يردها الله للرجال بالحكم، لا مصالح الرجال على حساب مصالح الله. عندها، فلاحلم رسالة الله العادل يتحقق، ولا حلم البشر بارادة الله لهم يتحقق.
زهير الزبيدي
29 / 01 / 2005