مما لاشك فيه ان الانتخابات العراقية قد شكلت مفاجأة غير متوقعة للكثيرين من المراقبين والمحللين من حيث النقاط الايجابية التي حققتها والتي ينبغي ان يسجلها - انصافا للتاريخ - حتى من كان ولازال معارضا لها او شاكا بها. هذا لايعني ان العملية كانت خالية من سلبيات عديدة وخاصة من الناحية الفنية والتي يتحمل مسؤوليتها المفوضية العليا للانتخابات حيث تم حرمان قرى ونواحي واقضية في سهل نينوى من ممارسة حقهم الانتخابي بسبب عدم وصول صناديق الاقتراع اليهم الا ان ذالك لايمنع من الاعتراف بان العراقيين بشكل عام قد تمنكوا وبنجاح من اجتياز حواجز مهمة في طريق مسيرتهم الديموقراطية

اما الحاجز الاول فقد تمثل في احترام الزمن حيث تم اجراء الانتخابات في موعدها المقرر. قد تبدو مسألة احترام الوقت والموعد غير جوهرية للانسان الشرقي ولذالك فكثيرا ما نتشبث بالمقولة الشهيرة والتي كررها الرئيس العراقي المؤقت الشيخ غازي الياور وغيره من السياسيين العراقيين في- ان التاريخ ليس مقدسا - على النقيض مما هو موجود في الدول الغربية حيث احترام الزمن يمثل قيمة اجتماعية عليا وهنا نعتقد ان الدور الامريكي كان حاسما في الاصرار على اجراء الانتخابات في موعدها في الوقت الذي لو اتيحت حرية الاختيار للقيادات العراقية لفضَل الكثيرون منها اجراء تغيير في موعدها وكان هذا ماعبَر عنه الكثيرون منهم علنا او ضمنا. لا بل ان نظرتنا المزمنة الى الزمن والتاريخ كونهما امران ثانويان الى الحد الذي اعتدنا عملية التلاعب بهما جعل الكثيرون يتوقعون ان الانتخابات سيصار الى تأجيلها في اللحظة الاخيرة كما جرت العادة ان تتخذ القرارات النهائية في الوقت الضائع بالشكل الذي تكون فيه هذه القرارات النهائية مختلفة جذريا عن الاعلانات والتصريحات والتعبئة لا بل حتى عن القرارات التي سبقتها بايام

اما الحاجز الثاني فقد تمثَل في نسبة المشاركةفي هذه الانتخابات حيث تحرر العراق بل المنطقة عموما من تلك النسبة الباعثة للسخرية (99،99). ان نسبة اقل او اكثر من ال ( 60% ) تعني بكل تاكيد اعترافا كاملا بالرأي الاخر حيث ان اعطاء النسبة الصحيحة والدقيقة لغير المشاركين بالرغم من اختلاف اسباب عدم المشاركة يمثَل تقديرا للوزن الذي يمثله هؤلاء وحافزا لكل الكيانات السياسية وللدولة للعمل بكل الوسائل لضمان مشاركتهم في العملية الديموقراطية عكس ما تفعله نسبة ( 99،99 ) من تهميش بل اقصاء بحقهم. انها المرة الاولى التي يتحرر فيها بعض من السياسيين في الشرق الاوسط من عقدة تلميذ الصف الاول الابتدائي الذي لايرضى باقل - من عشرة من عشرة - تقديرا له كما ان اؤلئك الذين شاركوا وهم الاغلبية لم يفعلوا ذالك بفعل التهديد والوعيد بل ذهبوا الى مراكز الانتخاب بمحض ارادتهم التي يتوجب احترامها

لسنا هنا في معرض حصر كل الحواجز التي تم اجتيازها بالرغم من اهميتها ولكننا نرى ان الحاجز الاهم الذي يقف الان في طريق العملية الديمقراطية في العراق يكمن في توفر الشجاعة الكافية لدى جميع الاطراف المشاركة وغير المشاركة في الانتخابات على الاعتراف بنتائجها النهائية - بعد الانتهاء من النظر في الاعتراضات - واعلان اختتام الموسم الانتخابي وعدم التحجر في موقع المعارضة من اجل الاستغلال الامثل للفترة الواقعة بين انتخابات واخرى لدفع مسيرة البلد الى الامام لان اي بلد لن يجد فرصة للتطور اذا بقي يعيش في اجواء معركة انتخابية دائمة. لقد تجول الرئيس الامريكي الاسبق الديموقراطي بل كلنتون في مختلف الولايات الامريكية من اجل حشد التأييد للمرشح الديموقراطي كيري في الانتخابات الامريكية المنصرمة وكان اي كلنتون قاسيا احيانا في توجيه الانتقادات الى سياسة الرئيس بوش الداخلية والخارجية ولكن ما ان انتهت الانتخابات واعلنت النتائج حتى اصبح الجميع جزءا من سياسة الرئيس بوش بالرغم من ارائهم السابقة فيها ولذالك لاعجب ان نسمع الرئيس كلنتون نفسه وهو يصرح قبل ايام في ان الولايات المتحدة قد ذهبت ولاتزال موجودة في العراق لمحاربة الارهاب. لقد تجاوز الرئيس الامريكي بوش عتبة ال ( 50% ) بصعوبة ليضمن الفوز في الانتخابات الامريكية ولكن ذالك العدد القليل الذي تخطى به الرئيس الامريكي خصمه في الانتخابات كان حاسما في جعل المرشح الديموقراطي يعترف بشجاعة بنتيجة الانتخابات ويطالب من صوَت له بالعمل معا تحت قيادة الرئيس المنتخب. ان الاتيان بهذه الامثلة لا يعني الايمان بمضامينها بل الاستفادة من القيم التي تمثلها في رفض العنف والاحتكام الى صناديق الاقتراع كونها تحتوي ارادة الشعب ومن حق البعض ان ينظر الى الولايات المتحدة نظرة عداء ولا غرابة ان يستفيد الانسان حتى من اعدائه ناهيكم عن ان هذه القيم والمثل الديموقراطية ليست حكرا على الولايات المتحدة وحدها

لقد قُدِمت الديمقراطية وصفة بديلة لنظام الحزب الواحد في الجمهوريات السوفيتية اثر انهيار الاتحاد السوفيتي السابق وقد اتت الوصفة بنتائج ايجابية في قسم من هذه الجمهوريات مثل روسيا ودول البلطيق واوكرانيا في حين لم تستطع جمهوريات اخرى من ابتلاعها وتقيأها البعض مباشرة او اصيب بالاسهال لفترة لكن جميع نتائج هذه الوصفة كانت متوقعة - باستثناء ما حصل في بلاروسيا - بسبب غياب الارث الديموقراطي في بعض من تلك الدول وافتقارها للمناخ الذي ينسجم مع التقاليد الديموقراطية. ان الاحكام المسبقة المبنية على التحليلات النظرية ليست صحيحة على الاطلاق فلكل قاعدة شواذ واذا كانت الماركسية قد اصيبت بالدهشة لانها وجدت لها اول فرصة في روسيا القيصرية وليس في احدى الدول الصناعية المتقدمة كما كانت تتوقع اصلا فان الانتخابات العراقية قد شكلت ايضا مفاجأة كبيرة ليس عيبا على اي كان ان يعيد بناء حساباته استنادا الى وقائعها

ان المثل الروسي يقول ان البداية الطيبة نصف العمل فهل سيستثمر السياسيون العراقيون هذه البداية الطيبة في الترفع عن المصالح السياسية الحزبية او المذهبية او القومية الضيقة وينطلقون معا لحل المعضلات الوطنية الكبرى فلا يندم الناخب العراقي الذي قرر ان يتحمل المخاطر ويذهب الى صناديق الاقتراع لكي يرسم لاؤلئك السياسيين الخطوط العريضة لصورة العراق الجديد. هذا التساؤل الكبير سيجيب عنه المستقبل القريب

[email protected]