لم تکن مجرد عملية إنتخابات عادية وإنما کان کرنفالا حقيقيا للعملية الديمقراطية في العراق، تلک الانتخابات التي کانت معظم أجهزة الاعلام العربية بشکل خاص تسوق التوقعات تلو الاخرى لفشلها و إخفاقها، لکنها خيبت رأي کل الذين کانوا يراهنون على فشلها أو عدم قيامها في موعدها المقرر. ولعل الاقبال الجماهيري الذي غالبه الحماس الوطني کان أقوى و أنصع رد عملي من عمق الساحة العراقية للإعلام العربي اللاهث دوما خلف الحصن الخاسرة ! بل وقد کان هذا الرد من القوة بحيث أربکت حسابات مختلف القوى السياسية الترکية" الحاکمة منها خصوصا" التي کانت تراهن هي الاخرى على تعثر تلک الانتخابات حتى يتسنى لها أن تلعب حظها في ورقة کرکوک و تدق وتدها المستحکم لأول مرة في العمق العراقي، إلا أن القضاء سبق السيف العذل وبات على الدوائر الرسمية الترکية أن تراجع حساباتها في العراق. أما إيران التي ترى في تقدم الشيعة العراقيين المضطرد في الانتخابات بادرة إيجابية تدعوها للإطمئنان نوعا ما، فإنها في نفس الوقت تنتظر أن يلعب حلفائها الشيعة دورا مؤثرا لصالح مخططاتها في المنطقة. لکن وبعيدا عن کل ذلک فأن کل من الجارتين الترکية و الفارسية تنظران بعين الريبة لفصل مابعد الانتخابات أو بکلام آخر يترقبان الخطوة الامريکية التالية خارج الحدود العراقية، هذا الانتظار المر الذي يکاد أن يکون القاسم المشترک الاعظم بين جميع دول الشرق الاوسط، يبين بوضوح لاغبار عليه أن الامريکان الذين يتواجدون في العراق يعملون بحسابات دقيقة و موجعة بالمنظار السياسي الرسمي الشرق ـ أوسطي. الامريکان بإصرارهم المنقطع النظير على إنجاح الانتخابات العراقية فأنهم قد وجهوا ضربة تحت الحزام للنظام السياسي الرسمي السائد في المنطقة، إذ أنهم أوضحوا بجلاء أن زمن الوجوه الاستبدادية المتربعة على نظام شمولي بات غير مرغوب فيه في عصر العولمة و صراع النفوذ الجديد في العالم. ولعل سقوط العديد من الوجوه الدکتاتورية في العالم خلال العقود الثلاثة الاخيرة من القرن العشرين هو الذي قاد الامريکان الى إعادة رؤيتهم للعالم و رسم إستاتيجية جديدة في ضوئها، وهي تدخل من ذات الشباک الذي کانت يدخل منه الاتحاد السوفياتي في الخمسينيات و الستينيات تحت يافطة تحرر الشعوب. لقد أدرک الامريکان أخيرا أن شعوب بلدان العالم الثالث باتت على دراية تامة بالاحداث السياسية في بلدانها و العالم وأن إغفال دورها سوف يؤدي الى المزيد من الانتکاسات في السياسة الخارجية لواشنطن و هو أمر هي في غنى عنه تماما و بالاخص في هذه المرحلة التي سوف تکون حاسمة جدا في التقسيم الدولي الجديد للنفوذ في العالم. من هنا وبعد الانتخابات العراقية التي فاق نجاحها کل التوقعات، فأن لعبة 99،99 % لم تعد مجدية لإختيار أنظمة الحکم في بلدان العالم الثالث عموما و الشرق الاوسط على وجه الخصوص. وقد تکون البسمة الواقعية و ذات المغزى المرتسمة على وجوه العراقيين أثناء الانتخابات و تلک التصريحات العفوية التي کانت تقترن معها، أقوى رسالة توعية سياسية يوجهها العراقيون لکافة شعوب المنطقة. ولاسيما وأن الانتخابات العراقية جاءت متزامنة مع الانتخابات الفلسطينية التي کانت هي الاخرى نموذجا في النزاهة و الشفافية، وليس هناک مواطن في الشرق الاوسط لم يسمع أو يرى العرس الاحتفالي في فسلطين و العراق ويدرک من خلالهما عقم و زيف مايجري من إنتخابات صورية في بلاده. ورغم أننا لانستهين بالدور السلبي جدا للاعلام العربي الرسمي في خلق مناخ عقلي عام يخدم أساسا النظام الرسمي القائم من خلال التشکيک بکل الذي جرى و يجري خارج حدودهم. بيد أن الفترة القادمة ستکون عسيرة و مصيرية لا بالنسبة للاعلام العربي لوحده فحسب و أنما للنظام العربي القائم بحد ذاته.

کاتب و صحفي کوردي
مقيم في المانيا