كتب الكثير عن موت الشيخ الرئيس رفيق الحريري، ويستحق الرجل أن يكتب عنه أكثر، إذ ربما هو الوحيد في حكومات بني يعرب من كان شريفاً نزيهاً، غير فاسد، بل وكان منتجاً دؤوباً، محباً لعمله ومثابراً فيه حتى كون ثروة هائلة من غير فساد أو سرقة مال وطنه، كما فعل غيره. وإلى جانب هذا فقد دفع بماله إلى بلده يستثمره فيه، وهو الذي كان بإمكانه الاستفادة منه أكثر في مناطق أخرى من العالم. وعلى هذا يمكن بداهة القول إنه استفاد من مقتله كل فاسد في هذا الوطن العربي الكبير. ومن مآثر الرجل ما لم يكن بمستطاع رجال الأعمال العرب من بني جلدته القيام به، وأعني، تعليمه لعدد يتجاوز بكثير الثلاثين ألفاً من أبناء بلده بانتماءاتهم كافة، في جامعات لبنان وفي أرقى الجامعات في العالم.
رجل مثل هذا الرجل ليس أوانه هذا الزمن العربي الرديء، وليس مكانه هذه الجغرافية التي تحتفي بالمخبرين والفاسدين، وباعة الأوطان.
إن الصورة التي ظهر عليها موته كما نقلتها الفضائيات اللبنانية وغير اللبنانية، تدل على حجم الإثم الكامن في نفس قتلته، وشدة الحقد عليه. فهو رجل لا يملك أحد من العرب أن يكون على شاكلته. وأما تشييعه فدلّ على ألق الراحل في موته كما في حياته التي ملأها بالعمل والتفاني في خدمة بلده، بجهده وبماله. فمؤسسة الحريري التي خدمت اللبناني الفقير، من دون تمييز في دينه ومذهبه، الخارج تواً من أتون حرب أهلية قضت على ما يزيد على مئة ألف إنسان، والتي أعانت المعوز على العيش الكريم، والطالب على إكمال تعليمه في الجامعات اللبنانية والعالمية، وحمتهم من الوقوع في الجريمة، هذه المؤسسة كانت لبنانية تماماً خرجت من معطف رجل لبناني وعى تاريخه، وأدرك بعقله وإيمانه أن خلاص اللبناني من نير الحرب الأهلية يكون بتوفير الفرصة المناسبة له بعيش كريم، وحصة طيبة من العلم يحتاجها الإنسان الذي فطر على حب تلقي المعرفة.
الأعداد التي عدّت بمئات الألوف على اختلاف الديانة والمذهب، التي خرجت في تشييع جثمانه دلت بما لا يقبل الشك على نقاء هذا الرجل الرئيس، الذي لم تستطع الأمة أن تنجب في تاريخها المعاصر شبيهاً به. وهؤلاء لم يخرجوا كما قال الصحفي اللبناني علي حمادة بالمخابرات وبالخوف، وإنما بحبهم هذا الرجل وبإخلاصهم له، يشيعون جسداً محروقاً وحّد يوم استوى في كامل هيئته لبنان على نفس واحد، وها هو اليوم بموته يوحّدهم من جديد، لعلهم يدفنون وإلى الأبد طائفيتهم وخطوط التماس من حياتهم، فتحتضنهم جغرافية بيروت الجميلة.
كُتبت مئات وآلاف المقالات عن رفيق الحريري، وتحدثت جميعها عن أبعاده الإنسانية والاجتماعية، المحلية والعربية والعالمية، وبقي أن نقول أين نضع رؤساء حكومات الدول العربية من هذا الرجل الكبير بحبه لبلده وعروبته وأبناء هذه العروبة.
فهل من العزاء القول أن في الأمة التي تعيش زمنها البائس ولد يوماً ما رجل كالحريري؟