يستعد الآشوريون بطوائفهم المختلفة بإحياء عيد الربيع، عيد رأس السنة الآشورية، بعد أيام،أي في الأول من نيسان، بعد أن أحيوه في بداية الألف الثالث قبل الميلاد، وكان آنذاك عيداً يحمل كل معاني التجديد وانبعاث الطبيعة بعد أشهر من الشتاء الموات، وكانت الاحتفالات بقدوم الربيع في بلاد مابين النهرين تمتد أياماً في رحاب الطبيعة الملونة بكل ألوان الورود والأزهار، لدرجة ذهب بعض المؤرخين اعتبار تلك الحقبة بداية نشوء المعرفة، كونها تميزت ببناء المدن والفنون وتقسيمات الزمن وتطوير الكتابة. في الواقع، لم ينقطع يوماً إحياء هذا العيد لكنه اتخذ أشكالا مختلفة ومغايرة بسبب جملة من التحولات الفكرية والعقائدية التي طرأت على حياة الآشوريين وخاصة بعد اعتناقهم للمسيحية حيث امتزجت تقاليد الدين الجديد بالطقوس القديمة. قي الحقبة المسيحية ربما حصلت انقطاعات وهذا يعود إلى الظروف القاسية التي عاشها الآشوريون في وسط مفعم بالتوترات ولا سيما بعد ظهور الإسلام السياسي الذي تميز بأنساقه المغلقة والاقصائية تجاه الآخر. لن أطيل الحديث في هذا الشأن لأن الأمر يثير شجوناً.

اليوم، سيكون الاحتفال بعيد راس السنة الآشورية امتداداً لأعراس الربيع الجميلة في كل مكان من بقاع تواجد الآشوريين التاريخي في العراق وسوريا وتركيا وسيتخلل هذه الاحتفالات أحاديث عن شجون الآشوريين في بلدانهم وسيأتي العراق في المقدمة وما حدث لهم في ظل الدولة القومية العربية الحديثة بكل " ثقلها" الاستبدادي القهري حيث كان كل تاريخهم وثقافته ولغتهم ( لغة العراق القديمة ) يختزل اختزالا تعسفياً في الثقافة العربية، لكن ما حدث بعد زوال النسق السابق أن تعرض الآشوريون لمصائب أخرى في ظل ديمقراطية وافدة، تمثلت بتجاوزات مقيتة على حقهم الانتخابي، إذ أقصي أكثر من ثلاثمائة قرية آشورية في سهل نينوى من الانتخابات الماضية، وقد تآمرت أطراف مختلفة في هذه المؤامرة البغيضة، أمر مقزز ومفرط بالأنانية المقيتة. هذه الحملة المؤمراتية كانت تهدف بالتأكيد إلى إقصاء الآشوريين المسيحيين من الحياة السياسية والاستفراد " بالكعكة " بكل تفاصيلها،وحتى إبعادهم من المشاركة في صياغة الدستور العراقي الجديد..ورحمتاه على هذا الشعب العريق الذي طالما تباهى بحق أنه من أحفاد الكلدو آشوريين الذين ملأوا الدنيا بنور المعرفة والذي طالما حلموا بعهد جديد تسوده المدنية والديمقراطية، وهاهم أمام – وأسفاه – أمام ديمقراطية مشوهة ومكبلة بقيود طائفية دينية اصولية قوموية. الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فقد تعرض المسيحيون لمسلسل من الاغتيالات ومن هدم الكنائس من قبل القوى الأصولية الظلامية، وفرض الحجاب على النسوة والفتيات المسيحيات بالقوة في الجامعات في الموصل وحتى في البصرة. أية ديمقراطية هذه؟ أية ثقافة وأية عقلية مقيتة هذه؟ المسكينة هي الديمقراطية التي قدمت إلينا بكل رونقها ونضارتها لكنها سرعان ما ابتليت بشخوص جهلوا أن الديمقراطية لاتعمل في وسط متخلف، وسط طافح بثقافة عشائرية بدوية طائفية قوماوية.. الحديث الآن عن إنشاء محافظة إدارية آشورية مسيحية في سهل نينوى لا يروق للبعض لأن هذا " يخربط " أجندتهم، عل كل حال، هذا المشروع هو الممكن ويجب الإسراع بالمطالبة به قبل الإقدام على " بلعه ".

في سورية، اليوم، تجري احتفالات رأس السنة الآشورية تباعاً وبحرية معقولة، وفي أمكنة مختلفة في الجزيرة، لكن من الأهمية الإشارة إلى أنه ليس الآشوريون (السريان الكلدان ) جميعاً معنيين بهذه المناسبة وبهذه المشاركة. لماذا؟ لأن ذاكرة البعض القومية محيت منذ فترة طويلة وحلت محلها ذاكرة أخرى، عربية على اكثر تقدير ( علماً أنني احترم كل انتماءات العالم ). في الواقع المتتبع لهذا الشأن يجد أن دائماً كان هناك ثقافة سائدة ومتسلطة لا تؤمن بحقوق الشعوب في الاختلاف وفي التنوع، بدءأ من دولة الخلافة الإسلامية وصولا إلى الدولة القومية العربية الحديثة، والآشوريون بثقافتهم بلغتهم السريانية كانوا دائماً ضحايا هذا الإقصاء وهذا التسلط وهذه الأحادية.، اليوم يتطلعون إلى عالم أفضل والى تعايش أفضل مع الآخر ومع كل الطيف السوري.

في تركيا، اليوم ولأول مرة منذ انقطاع طويل سيحتفل الآشوريون ( السريان ) باحتفالات الأول من نيسان، وسيقدم أناس من بقاع مختلفة من العالم لحضور هذا المهرجان الربيعي، وبالتأكيد سيعود الناس إلى الذاكرة وسيتساءلون عن ماض مؤلم حيث حرموا طويلا من ممارسة أي حق ثقافي وأي حق في الوجود. لقد عاش الآشوريون السريان أعوام عجاف في ظل الهمجية العثمانية التركية، وقد أبيد القسم الأكبر منهم بين الحربين العالميتين وتعرضوا لسياسة التطهير العرقي وارتكب بحقهم أبشع المجازر، وتم كل ذلك على خلفية دينية وقومية، لذا نجد أن المساحة الديموغرافية لوجودهم قد تضاءلت يوماً بعد يوم، بحيث لا تتجاوز البضعة آلاف. فالربيع الآشوري هذا العام في تركيا سيكون جميلا أمام ذاكرة مثقلة بالانكسارات والأحزان.

فربيع جميل وتهنئة من القلب لكل الشعوب السائرة نحو الحرية والى كل الطامحين لغد افضل والى الحزانى الذين ابتلوا طويلا بتجار الموت وبالظلاميين الجدد.


باحث آشوري [email protected]