لم يصب القلق السوريين في الخارج بالماضي كما هو اليوم. منهم من يرغب في تغيير شامل للنظام مهما كان الثمن، ومنهم من يرغب في حوار وطني وبناء سورية الجديدة، وغيرهم يقبلون بالإصلاح ولو كان من قبل النظام نفسه، بشرط أن تتحقق البنود الأساسية في حرية الرأي والديموقراطية (نسبياً) والغاء قانون الطوارئ، وإشاعة مناخ جديد يسمح بحوار وطني يؤدي إلى مصالحة شاملة.

وبين هذا وذاك، مازال المواطن السوري العادي الذي لايهمه من أمر السياسة إلا الوضع الإقتصادي والعيش الكريم بحدوده الإنسانية المقبولة. وهو يشكل في مثل هذه الحالة الأساس الأول والأخير في لغة ومفاهيم الدولة العصرية، ذات القيم الإنسانية الحقيقية، المحققة لمعايير العيش الأمن، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.

ولا نستغرب عندما نسأل القادمين من سورية عن الأوضاع العامة، فنتفاجأ بالجواب، أن الأمور عادية جدّاً، ولا نستغرب في
أن الناس تقف في الطابور بعد الواحدة ليلاً بانتظار فروغ طاولة لتناول العشاء عليها. وكأن الجواب بذلك يحاول أن يقنع أن الأمور عادية جدّاً، والناس غائبة عن متابعة الأخبار وما يحدث خارجياً، أو أن الناس قد سأمت من حياتها، ولاهم لها إلا بمتابعة الحياة كما هي، وزي ماتيجي تيجي.

هل هو أمر غريب، أم أن الأمر عادي جدّاً في ثقافتنا المعاصرة المتغيرة مع عدة عقود، لأجيال جديدة لم ترى من واقع سورية التاريخ المعاصر والحديث، إلا نوعاً واحداً من الأنظمة السياسية. لذا قد يكون غريباً عليها أن تتوقع نظام من نوع جديد، فيه من الحريات مالم يمارسه إلا الكهول وكبار العمر ولوكان لفترات قصيرة جداً.

لقد أدى اغتيال الحريري، وانتفاض اللبنانيون في كافة تجمعاتهم السياسية والطائفية، إلى نوع من رد الفعل لدى الجالية السورية المهاجرة في مدينتنا مونتريال، لم يكن موجوداً في السابق. حيث وبنفس الوقت تقريباً، قام مجموعة من السورييين، باقامة حفلة ترحيب بالسفير السوري الجديد في مدينة مونتريال، تجاوز عددها المائتي شخص، دعا بعض الناشطين في العمل السياسي والثقافي، إلى اجتماع تلته إجتماعات مازالت متواصلة لمناقشة الشأن السوري في الوطن والإغتراب الجديد. حيث تحدث العديد عن زوال عقدة الخوف المتلازمة مع الفئات السورية المهاجرة، التي مازال لها مصالح في الوطن. مما أدّى إلى اجتماع التناقض السياسي واستمراره بين الأطراف، عبر القبول بالإختلاف، بحوار أقل مايقال في أنه يهدف لبناء مصلحة عامة، لتجمع السوريين في المهجر، ورفع اسمهم وشأنهم عبر عدة صيغ، ثقافية أو سياسية، أو إجتماعية.

ولأن الماضي لم يسمح بتشكيل جمعيات، أو أندية للجاليات السورية في هجرتها الحديثة، بسبب ترابط المصالح وعدم الثقة بالاخر، فإن ما يحدث اليوم قد يدعو إلى التساؤل عما يمكن أن تكون عليه الجاليات السورية فيما لو تحول النظام من نظام الحزب الواحد، إلى نظام الحرية والتعددية السياسية، ودولة سيادة القانون والدستور والمساواة.

حيث لابد من القول، وبشكل عفوي وطبيعي، أن الجالية السورية في أي بلد إغترابي ستعود إلى وعيها وصحتها، لتقوم بإنشاء أندية وتجمعات، مشابهة لما فعلته الجاليات السورية القديمة التي كان لإدائهما على صعيد التجمعات أثاراً مازالت حية إلى يومنا هذا، خاصة في اميركا اللاتينية.

ولأن المعيار الشائع، أن جميع السوريين يحبون وطنهم وتاريخهم ويشعرون بالإنتماء إليه في أية صيغة وأي شكل، فإن سحر كلمة الوطن، قد يكون لها مفعولا اشد وأقوى من أي مفعول سياسي، أو ثقافي أو غيره.

فالإنتماء حتى للأطفال الذين ولدوا في دول الإغتراب، قد يكون في بدايته التساؤل، ومن ثم الأهمية، ليتحول في لحظة الحقيقة، إلى حكاية متجذرة لا يمكن تجاوزها مهما كانت الظروف والمواجهات التي تجابه أبناء الجيل الثاني والثالث.

إن ماهية الثقافة اليومية لجيل اصبح متقدماً في العمر، قد تكون محوراً واساساً لصيغة جديدة من القبول بالآخر داخل الوطن وخارجه، خاصة عندما يتم الحوار والنقاش بصيغة منطقية وعلمية على اسس سليمة.

وكم فوجئنا من بعض الذين كانوا مختفين في صيغة أو أخرى عن الأنظار، بوجودهم فيما بيننا اليوم، في حوار، لا نتفق على صيغته بالكامل، لكننا كنا ومازلنا قادرين على الإستمرار به، بعد التحرر الذاتي الذي أوجبته الظروف الجديدة، في عدم الخوف، والجرأة في الطرح، ونقض كافة الأفكار ومن ثم مناقشتها في كافة تفاصيلها.

وما يعزز جدية الحوار، القدرة (على الأقل في حواراتنا المتكررة كسوريين في مونتريال) على طرح مفاهيم مثل المصداقية الثقافية والسياسية، والدعوة للخروج من طابع الفردية أو المحورية العقائدية، الذي لازم العديد في مسيرتهم الإنعزالية في السنوات السابقة.
وقد يكون الأغتراب الذي مارسنا به نمطاً متقدماً من الحرية وإبداء الرأي وسيادة الدستور والقانون ونظام في كل شئ، صيغ حقيقية، لمشروع مستمر على (قدنا) في كندا، لكنه لماذا لايكون بداية مرحلة جديدة، يمكن للوطن بكل فصائله السياسية، المعلنة أو غير المعلنة، ممارسته في الأيام القريبة القادمة.

إن حلم السوري في الإغتراب، قد يتحدد بنمط العيش الكندي، الذي يفرض على أي مهاجر جديد، بعد تجربة عدة سنوات، نظاماً وهدوءاً، وعقلانية، يمارس بشكل طبيعي، مشابه لأي مواطن كندي آخر.

وكم هو جميل أن يعم الوئام والسلام يوماً في الوطن الأصل، كما هو حاصل في الدول المتقدمة، بدون الحاجة إلى دفع ثمن باهظ وكبير، كما هو حاصل في العراق الشقيق.

إن الحلم بنسيم الوطن السوري، يبقى حكاية مشاعر قاسية في ذكراها على كل إنسان امضى سنوات وسنوات بعيداً عن تلك الأرض، خاصة الأجيال الثانية التي لم يمسها سحر الوطن السوري بكل تناقضاته وظروفه السياسية والإقتصادية الصعبة.

لقد كان لنا كجيل سابق، حلم جميل، اسمه الوطن السوري، ومازال يعبث في الذاكرة والمشاعر بكل قوة، وإن كانت ظروف الحياة القاسية في طقس متطرف، أو ظروف خاصة لكل فرد أو عائلة.

هل تنجح الحكاية ويعود طقس العقلانية السورية إلى اهلها، بعد شيوع زمن مخالف في عاداته وتقاليده لما بني عليه التاريخ السوري، المؤلف من آلاف السنوات، لم تكن في مجملها إلا شعوب تقبل بما كتب عليها وما هو لها، في صفات من الإبداع والمشاركة الإنسانية، مع عسكر الشعوب الوافدة الأخرى، لمعظم الحضارات القديمة.

إنها كانت ومازالت سورية، وطن العالم كله، ووطننا الذي كنا ومازلنا نفخر به، كان علياً أو كان في حضيض الأرض.

إنها سورية التي احببناها وتمنينا لأهلنا كلهم بها، العيش الرغيد بأمن وسلام، بدون عنف أو قتل أو تطرف.

إنها تأملات مواطن سوري، مازال يعتصر الحزن داخله، كونه كان ومازال يحاول البحث والتنقيب عن أجمل صورة لهذا الوطن، والعيش الرحب للمواطن المعذب في ظروف تاريخية خاصة، ليست جزءاً من تاريخه العقلاني والإنساني الأرقى.