قم بنزهة ..ولا تخطئ
إنه كورنيش القاهرة ليلا
أحمد عبد المنعم: بخطوات بطيئة أشبه بتلك التي يسير بها نحو مستقبله ، أمسك بيد خطيبته الجميلة - أو هكذا بدت له على الأقل- وقام بنزهة على كورنيش النيل في القاهرة .أمسك بيدها بقوة وكأنه يخشى أن يخطفها منه أحد المارة الذين إكتظ بهم المكان . إختار الوقوف على كوبري قصر النيل كما إعتاد منذ إرتباطه بها قبل أربع سنوات . أخذ يتلفت يمينا ويسارا ليتأكد من عدم مراقبة أحد له عله يظفر بقبلة سريعة إنتظرها أسبوعا كاملا . هو يعلم أن الفشل في تحقيق ذلك يعني الإنتظار سبعة أيام إضافية وربما أكثر في حال لم تسمح له حماته بإصطحاب عروسه للنزهة .
هو لا يكترث مطلقا لوجود المارة ، وهم أيضا لا يكترثون به أو بغيره من العشاق كونهم إعتادوا هذا المشهد العاطفي الذي لم يعد يلفت إنتباههم من الأساس ... إنها قصة كورنيش القاهرة .
لم يعد يعكر صفوه سوى أولئك الصبية الذين يبيعون الفل والياسمين أو زجاجات الكوكا كولا .
قد تكون أعدادهم كبيرة مقارنة بمساحة الكورنيش ،لكنهم إتفقوا فيما بينهم على تقسيم مناطق النفوذ وتعهدوا بعدم الإعتداء على مناطق الغير . فكورنيش النيل "ملكية خاصة "لهم ولا يحق لأحد التنزه على شاطئه من دون رضاهم .. ورضاهم بالطبع لا يشترى إلا بالمال" .
من يختار الوقوف فى هذا المكان عليه شراء ما يبيعونه من بضائع وإن لم يكن يحتاجها .
.. وفي إحدى المرات المشؤومة ، رفض الإنصياع لمطالبهم – لا لرغبة فى مقاومة الشعور بالقهر الذى يتملكه كلما رأى أحدهم – إنما لسبب واحد فقط وهو أنه بالفعل لم يكن يملك سوى ثمن تذكرتين للأتوبيس الذي سيقلهما الى المنزل في نهاية السهرة .
لحظات السعادة التي كان يسرقها من زمن قاس تحولت إلى جحيم لا يطاق ، فما إن يقترب من فتاته حتى يصرخ أحد الصبية بصوت جهوري " شايفك !" .فتنتفض فتاته من الخجل بعد أن يسارع المارة للبحث عن الشخص المقصود الذي ضبط متلبسا .
يحاول جاهدا أن يهدئ من روعها ليحاول مرة أخرى متمنيا أن تكون "عيون الصبية " في إتجاه آخر بعيد عنهما . يضع يده على كتفها ويمررها برفق ،الدماء تتدفق بشدة إلى رأسه ، دقات قلبه تتسارع من السعادة ،وأخيرا سيخمد شوقه .."نزل إيدك" صوت جهوري آخر يكسر سحر اللحظة المنشودة .
عليه أن يستسلم ، فلا فائدة من الوقوف في هذا المكان الذي " فشل" في شراء رضى مالكيه ، الحل الوحيد هو إيجاد مكان آخر.لكن المكان الجديد لم يكن بافضل حال من سابقه ، فالخبر على ما يبدو إنتشر وغضب الكورنيش سلط عليه .. فتكرر السيناريو نفسه لتجهش فتاته ببكاء مرير بعد أن وجدت نفسها فريسة لنظرات بعض المارة التي تدين تصرفها المشين . أرادت أن تصرخ وتخبرهم أنه خطيبها وسوف يتزوج بها عندما يعثر على شقة لكنها لم تفعل. ربما لأنها انشغلت بالبكاء وربما لأنها لم تعد متأكدة من تحقيق حلم زواجهما لأنها تدرك جيدا إستحالة حصول خطيبها على شقة تصلح عشا للزوجية !
أصرت على مغادرة المكان والعودة إلى المنزل ولم تنجح محاولات الشاب اليائسة في إثنائها عن قرارها القاسي الذي يعني أسبوعا إضافيا لقبلة سريعة تخفف شوقه لها . غادر المكان غاضبا بشكل جنوني ،هل يوجه غضبه إلى هؤلاء الصبية الذين أفسدوا جلسته مع الحبيبة ..أم إلى أصحاب العقارات الذين حرموه من حلم الحصول على شقة من خلال أسعارهم الخيالية ؟ أم يغضب نفسه كونه المسؤول عما حدث لأنه لم يحضر من المال ما يكفي لشراء صمت الصبية ؟ ولكن ما بيده حيلة ، فراتبه الشهري نفذ قبل يومين ولم يعد يملك سوى ما يغطي نفقة المواصلات ذهابا وإيابا إلى عمله حتى يحين أول الشهر و الذي بقي عليه عشرة أيام كاملة !
حسنا .. لن يلوم الصبية ، ولن يتهم أصحاب العقارات، كما لن يحمل نفسه مسؤولية ما حدث . سيلوم المجمتع الذي لا يحترم رغبات أبنائه ،مجتمع لا يرحم شاب شارف على نهاية العقد الثالث من عمره وأقصى طموحه الظفر بقبلة من خطيبته فى الشارع .
أربع سنوات كاملة مرت على خطبته وبات الأمل فى إتمام الزواج ضعيفا . فالحماة مصرة على شقة "تمليك" مكونة من أربع غرف على الأقل وراتبه الشهري 400 جنيه (70 دولارا ) لا يكفي للعثور على شقة بالإيجار .
وصل إلى منزل خطيبته ودعها بسلام بارد أشبه بالحالة التى سيطرت عليهما طوال الطريق .. تركها وهو يمني نفسه بحظ أوفر فى المرة القادمة !
.. إنه شاطئ النيل . هذا الشاطئ الذي يشهد يوميا عشرات بل مئات الحالات المماثلة مضمونا وإن إختلفت تفاصيلها .. البعض يذهب إلى النهر العظيم يبث إليه شوقه ويشكو إليه حزنه وقلة حيلته والبعض الآخر لا يشغله سوى لحظات السعادة التى يسرقها مع فتاته .. خطيبته كانت أم حبيبته .
التعليقات