سعيد الحسنية: شعور بالأسى والغضب كان ينتابني مذ كنت صغيرًا وأنا أجلس أمام شباك غرفة نومي، وأشاهد جنون الطبيعة الخريفي، وقساوة قلبها وهي تفرق بين الأشجار وأوراقها .كنت أحدق بتلك الأوراق التي فارقت لتوها الحياة، وتحولت إلى ريشة في مهب الريح . أراقبها وهي تبتعد أكثر وأكثر عن أمها . كنت أرتعد خوفًا وأرتجف قلقًا ، وأتساءل كيف طاوع قلب أمٍّ أن تترك أبناءها ؟
توالت الأيام ومر وقت طويل قبل أن أحصل على إجابة شافية . لكني أدركت اليوم وبشكل قاطع من المسؤول ؟ إنها الرياح العاتية القادمة من كل حدب وصوب، والتي لا يُضمر هيجانها إلا منظر الجثث المتناثرة، وقد عقدت العزم على المضي قدما في مسلسل التفريق، وأقسمت على عدم ترك أي فرصة أو بصيص أمل للأوراق أن تموت وتدفن في مكان مولدها . وها هي عند كل منعطف ترفع لواء ذلك القسم " المنزل " وتظهر عزمها الأبدي على تطبيقه مهما كلف الأمر .إنها أوامر عزرائيل فهل يعقل أن لا تنفذ ؟؟ الذنب ليس ذنب الرياح ..إنه ذنب القسم ، لولاه لرق قلبها ورحلت دون أن تجر خلفها الجثث.
شعور مغمس بالآلام كنت أظنه حكرا على تلك الأوراق، قبل أن يشاركها به الفلسطينيون ويتغلغل داخل شرايين اللبنانين ويصبح خبزهم اليومي، فذاقوا طعم التشرد وقاسوا لوعة النفي القصري ، أو الإغتراب داخل الوطن . بت أدرك هذه الحقيقة الان بعد أن ذقت وغيري من اللبنانيين ذلك الشعور باللاإنتماء، بعد أن "بصقتنا" دولتنا خارجا ودفعتنا إلى المجهول بحثا عن مستقبل مفقود .أما من بقوا في أرض الوطن فشهدوا تلك العواصف الغربية – العربية التي هبت على لبنان والرياح " الإقليمية " التي تلاعبت به ،ومحبة الشقيقة الحبيبة التي غمرته لدرجة الموت . فحضنت جثته بما أوتيت من قوى " إستخباراتية " و "قومية " ، وتفانت في حرصها على مصلحته واستعدادها الأبدي للدفاع عنه . وكي نبقى معا إلى الأبد ، أسندت لقراصنتها مهمة السهر علينا والحرص على أن نموت بصمت، وأن لا ندفن في أرضنا .ويتوجب عليهم بذل قصارى جهدهم لنبقى مشتتين ومتناثرين بين شاطىء وآخر ، مطرودين من أرضنا ، محرومين من حريتنا وكرامتنا ومسلوبين من حقوقنا . لا لسبب وإنما لأننا ما زلنا " قاصرين ومبتدئين " في مدرسة الخنوع ، لذلك يتوجب علينا ان نتروّض ونتعلم ونخضع لذلك الوصي .. صاحب الأوسمة والرتب ، والهندام القانوني المرصع بسيوف ونجوم !
ذلك الخريج بالواسطة من جامعة العسكريتارية العريقة ، والذي أقسم على بناء دولة القانون والمؤسسات وقطع يد السارق ، ولكن إلتبست عليه الأمور فبنى الزنازين والمقابر بدل المؤسسات وظن أننا جميعنا لصوص فأخذ يقطع رقابنا بدل أيدينا ، لأن جلاده أعور وقاضيه أمي وقسمه مقدس ، لدرجة خرق كل الأعراف والقوانين لكي يبقى . هذا هو شعور اللبنانيين يا صاحب القسم المقدس ، مشاعر مغمسة بالغضب والأسى " . فلا تجزع يا وطني .. لن يلومك أبناؤك لتخليك عنهم ، فهم يدركون أن الذنب ليس ذنبك ..إنه ذنب السيد " القسم "..!! .
- آخر تحديث :
التعليقات