من الإحساس إلى العلاج :
الموسيقى تفتح أبواب جديدة لحياة أفضل
إيلاف: إنها أكثر من نغمات تنساب عبر الراديو أو التلفزيون أو حتى تصدر عن الموسيقار أو المغني بشكل مباشر ، فالموسيقى وبعيدا عن الصراع حول تدني مستواها أو عدمه جزء لا يتجزأ من الحياة بشكل عام وحياة الإنسان بشكل خاص .فهذه القدرة الإبداعية الغريبة على خلق مشاعر وأحاسيس وحياة مختلفة جميلة بإنسيابها الهادئ أو العنيف أو المحفز وجدت منذ البداية .. فكان صوت الأمطار و الرياح والمياه والعصافير وحتى تلك النغمات المنفرة أحيانا كالشخير أو الصوت الصادر عن السعال أو البكاء أو الضحك ..لكل من هذه الأصوات نغمات مختلفة تميزها عن غيرها . كما لكل صوت موسيقى حالة حسية تميزه عن غيره من الأصوات ، كذلك الموسيقار والملحن والمؤلف الموسيقي . فخلافا للكاتب على سبيل المثال فإنه يتعامل مع الإحساس أكثر مما يتعامل مع الماديات الملموسة، فالكاتب يعرف تماما لأي جمهور يتوجه ويعرف كيفية التلاعب بالكلمات من أجل تأثير أكبر .. أما المؤلف الموسيقي فهو يتعامل مع حالة حسية شعر بها فكتبها على شكل نغمات ترجمت من خلال قطع موسيقية قادرة على خلق حالات عاطفية مختلفة لعدد هائل من الأشخاص . ففي الحالات العاطفية المختلفة يلجأ الانسان إلى الموسيقى سواء كان حزينا أو فرحا أو منتصرا أو مهزوما ، خلافا لبقية أنواع الفنون فلا تجد شخصا تملكه الحزن فقرر الذهاب إلى معرض للوحات كي يهدأ من روعه ، ولا يحاول أحدهم التنفيس عن غضبه عبر قراءة كتاب ما ، أو التعبير عن فرحته بزرياة معرض للمنوحتات .. إنها الموسيقى دوما .. الحل الأول الذي يلجأ له عدد كبير من الناس .
العقل والموسيقى وتأثيره على حياة الإنسان :
أذن موسيقية أم عقل موسيقي ،سؤال قد يفرض نفسه في معرض مناقشة التذوق الموسيقي وتأثيراته على الإنسان .وبعيدا عن المفهوم الدقيق لكلمة أذن موسيقية ، فإن المقصود بهذا التعبير هو العضو الذي يتم سماع الموسيقى من خلاله .فلسنا بصدد مناقشة الآذان الموسيقية من عدمها كوننا لسنا بمحترفين يمكننا التميز بين النوعين . الأذن هي مركز السمع ، لكنها ليست المترجم لهذه الموجات الصوتية ، إنها مجرد "قناة" لنقل هذه الذبذبات الصوتية إلى العقل الذي يترجمها بالشكل الذي نتلقاه . إذن العقل هو الذي يسمع الموسيقى وليست الأذن ،وبما أن العقل هو المركز المترجم لكل الأحاسيس فإن الموسيقى لا بد أن تؤثر عليه بالدرجة الأولى .
وإن كانت الموسيقى ومن خلال "الحالات الحسية" التي تخلقها لدى الإنسان تعتبر ترويحا عن النفس ، فإنها وفي الوقت عينه غذاء ودواء للجسد .ووفقا للدراسات تعتبر الموسيقى من أهم المؤثرات السمعية بسبب تأثيراتها الفسيولوجية والنفسية والعصبية والصحية . فالموسيقى تحدث تغييرات فسيولوجية في الجسم البشري تتمثل بزيادة القدرة على تحمل متاعب العمل وضغط الحياة إضافة الى تنشيط الحواس والدورة الدموية والعضلات .
ولا يتوقف الأمر عد هذا الحد بلا تطال الموسيقى عمليات فسيولوجية أخرى كتحفير عملية هضم الطعام وإمتصاصه في الجهاز الهضمي والتخلص من المواد الضارة بالجسم . إذن الموسيقى ليست تلك النغمات التي نتراقص عليها أحيانا أو نتتشي بها في أحيان أخرى أو نفرغ حزنها من خلالها ـ إنها وسيلة حسية رائعة قادرة على التدخل في مهمات الجسم البشري وتسهيلها .فكل ما عليك القيام به هو الإستماع إلى الموسيقى الكلاسيكة أو أي نوع موسيقي تستسيغه ويمكنك وببساطة التخلص من عسر الهضم مثلا . في المقابل تبرز الموسيقى المزعجة كمصدر للأمراض فقد تؤدي إلى تغييرات فسيولوجية عكسية من شأنها التسبب باضطرابات في القلب والأعصاب والسمع وحتى إضعاف جهاز المناعة والإصابة بالعديد من الأمراض.
فالدراسات التي اجريت على تأثير الضوضاء على صحة الانسان أظهرت علاقة بين الضوضاء وبين بعض الأمراض التي تنتج بسبب زيادة في افراز بعض هرمونات الجسم وخاصة الأدرينالين والكورتيزون .وهذه الهرمونات تسبب تصلب الشرايين وارتفاع الكولسترول في الدم وسكر الدم وأمراض القلب وتضعف مقاومة الجسم للأمراض الميكروبية والفيروسية بالاضافة الى الصداع المزمن والدوخة وحرقان المعدة وعسر الهضم .
قوة غريبة قد تمتلكها الموسيقى ، قوة تتخطى " المعلومات" المتدوالة حولها بأشواط . فهي لم تعد تلك النغمات التي نستسيغها أو لا نستسيغها .. فالموسيقى حياة ،حياة قادرة على التأثير وبشكل مباشر وقوي على كل الكائنات جسديا وحسيا .
الحالات الحسية والذاكرة
غذاء للروح أو للجسد ، الموسيقى كانت وستظل ذلك الإحساس الغريب الذي يخدر الحواس وينقل الإنسان إلى عالم آخر . ومن ميزات هذه الحالات أنها تختلف من شخص لأخر يستمعان الى المعزوفة نفسها ، فأحدهم قد لا يتأثر بها في الوقت الذي يسرح الآخر بين مشاعر متدفقة يصعب عليه شرحها . كما أن أحدهم قد يجد "بهجة" ما في معزوفة في الوقت الذي يعتبر شخص آخر المعزوفة نفسها مصدر للحزن ، كل يشعر بها وفقا لأحساسيه الخاصة وكل يرحل الى "مكانه الخاص" من خلالها .فالموسيقى قادرة على تنشيط الذاكرة من جهة كما أنها قادرة على تشكيل جزء من هذه الذارة في أحيان أخرى . ففي الحالة الأولى أ ثبتت الدراسات ان سماع الموسيقى الهادئة اثناء القراءة أو إستذكار الدروس يساعد على التركيز لمدة طويلة وبالتالي تنشيط مركز الذاكرة في المخ .أما في الحالة الثانية ، والتي لا تحتاج الى تركيز أو تنشيط للذاكرة ، فإنه يتم ربط الموسيقى بشخص ما أو مكان ما أو لون ما. وعملية الربط تحدث بشكل تلقائي، فعلى سبيل المثال بمجرد سماعك لمعزوفة ما او أغنية ما تتذكر مباشرة حبيب ما كان يحبها أو صديق ما أو حتى مكان ما . فربط الموسيقى بهذه الامور رهن بمدى التأثير الذي وجد لحظة سماع الاغنية او الموسيقى .. وهكذا تتحول النغمات إلى صور "خاصة" ربطت بها وإن لم تكن قد خلقتها .
الموسيقى والأطفال .. السبيل لتنمية القدرات العقلية:
إن تأثير الموسيقى على الإنسان لا يقتصر على البالغين فحسب وإنما تؤثر على الجنين أيضا الذي يستطيع سماع الأصوات وتمييز النغمات الموسيقية إبتداء من الشهر الثالث والشهر الرابع للحمل.فالأذن هي أول عضو يتكون في الجنين وتبدأ وظيفة الاذن السمعية بعد 18 أسبوعا فقط من بداية تكوينه.
التأثيرات الإيجابية بشكل عام يكون من خلال الموسيقى الهادئة إذ أنها تؤدي إلى "تهدئة" ملحوظة في ضربات قلبه في حين تؤدي موسيقى الروك الصاخبة إلى زيادة في ضربات قلبه .كما أن سماع الأطفال للموسيقى الهادئة يؤدي الى رفع مستوى الذكاء والابداع والتحصيل الذهني وهذا ماأكدته الاختبارات التي اجريت على الاطفال الذين يسمعون الموسيقى الكلاسيكية وخصوصا موسيقى موتزارت وذلك بالمقارنة بالأطفال الذين لا يسمعون الموسيقى .
موسيقى جميلة .. موسيقى بشعة
قد تكون مسألة ذوق ، فالبعض يفضل نوع من الموسيقى في الوقت الذي يفضل البعض الآخر نوع مختلف . ويعتقد العلماء أنهم إقتربوا من فهم السبب في تفضيل البعض الإستماع للموسيقى الكلاسيكية بينما يفضل آخرون موسيقى البوب مثلا وربطوا بين عملية التذوق الموسيقية والوظائف الفكرية ، أو بمعنى آخر إن تذوق الموسيقى الكلاسيكية يتطلب قدرات عقلية أكبر من تذوق الأنواع الاخرى .
فمرضى العقل، الذين تتقلص لديهم القدرات العقلية، يتحولون في بعض الأحيان من الموسيقى الكلاسيكية إلى موسيقى البوب، لكن ليس العكس فتذوق الموسيقى.فتعرض الفص الأمامي للمخ للتلف نتيجة الإصابة بالجنون يمكن أن يؤدي إلى ظهور تغيرات في الأذواق الموسيقية ويذكر أن الفص الأمامي للمخ هو المسؤول عن اتخاذ أكثر القرارات تعقيدا والمسؤول أيضا عن الشعور بالرضا والسرور .لكنه هذا لا يعني أن محبي موسيقى البوب مصابون بخلل في الفص الأمامي للمخ، فالذوق الموسيقي تتحكم فيه العديد من العوامل الشخصية والاجتماعية والثقافية شديدة التعقيد . لكن الأمر وعلى ما يبدو لا يزال بحاجة الى مزيد من الابحاث والدراسات إذ ان عدد كبير من البارزين ثقافيا يحبون انواع اخر غير الموسيقى الكلاسيكية .
العلاج على انغام الموسيقى
يعتبر مرض الايدز والطاعون من الأمراض الفيروسية التي عجز الطب عن السيطرة عليها وعلاجها حيث تم تجربة أدوية ووسائل علاجية عديدة ولكنها لم تحقق النجاح المرجوة في مقاومة المرض وعلاج المريض وكان للموسيقى نصيب من هذه التجارب. وتبين أن سماع الموسيقى يؤدي إلى تخفيف الألم ومغالبة الأرق والإكتئاب والقلق وإرتفاع ضغط الدم بسبب مساعدة الموسيقى للمخ على إفراز الاندروفينات. كما حققت الموسيقى الكلاسيكية نجاحا ملموسا في علاج السرطان كعامل مساعد مع العلاج الكيمائي إذ يخفف من حدة الأعراض الجانبية.
كما أن إستماع المرضى إلى الموسيقى قبل و أثناء الخضوع لعملية جراحية يمكنهم من التخلص من العصبية والتوتر ويساعد علي الإقلال من الإرتفاع في ضغط الدم . ويمكن تحقيق نتائج أفضل عبر السماح للمريض بإختيار الموسيقى التي يفضلها .
وسواء تم إستخدام الموسيقى كعلاج للأمراض أو للترويح عن النفس فإن تأثيرها أقوى وأعمق مما هو معروف بشكل عام . فهي حياة بحد ذاتها ، تدفع كل من يسمع ما يستيغ منها إلى خلق حياة أخرى خاصة به . فمعظم المبدعين كتابة أو رسما أو نحتا يعتبرون الموسيقى مصدر إلهام لهم . فهذا المؤلف الموسيقي تفوق على كل شيء .. خلق من إحساسه فرح وحزن وإنتصار وحب وهزيمة وانتشاء ومرض وشفاء كل ما هو حي .
التعليقات