الحلقة الثانية والأخيرة من حوار مع فوكوياما:

من برلين: في هذا النص من الحوار الذي أجراه روبرت ميسيك مع المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما لصحيفة " تاغستسايتونغ " الألمانية توضيح مفيد لآراء يوكوهاما ولجوهر اطروحته بصدد "نهاية التاريخ" وجدله مع منتقديه. وكذلك موقفه من رفاقه في صف المحافظين الجدد. ويتحدث فوكوياما في اللقاء عن الخلاف بين امريكا واوربا ويعتبره خطأ لكنه يردّ ذلك الى اسباب تاريخية، فيما ينفقد سياسة بوش التي أملته مخاوفه وأوهامه بصدد العراق. ويوضح ايضا موقفه من الأسلام بينما يحذر اوربا ويدعوها الى العمل الجاد لدمج المهاجين اليها. ومهما تكن افكار فوكوياما صائبة او مجافية للواقع فانه من المفيد لنا التعرف عليها، خاصة انها أفكارٌ مازالت تلعب دورا في القرارات التي تتخذها الولايات المتحدة الأمريكية وهي تحس بنفسها القوة الأعظم التي هيأها وزكاها سقوط البلدان الأشتراكية، بينما تعتمل في داخلها، عبر تكوينها و بنيتها، رسالة وجوب اشاعة الديمقراطية الليبرالية وسيادة اقتصاد السوق في العالم وإن اقتضت بالقوة.


* سيد فوكوياما، أعلنت في العام 1989 في نص اطروحة طويلة " نهاية العالم " وبسبب تلك الأفكار التي طرحتها اكتسبت شهرة عالمية. منذ ذلك الحين ارتبط اسمك وتحددت هويتكَ بهذه الفكرة، هل يمثل الأمر لك امتيازاً أم انه يمثل غبناً؟

ـ حسناً، هناك بعض الإستنتاجات السلبية، بضمن استنتاجات أخرى. انني أُسألُ باستمرار...

* كما يحصل الآن مثلاً...

ـ ولكن من جهة اخرى لم أكن أحوز على كل هذا الإهتمام وأوخذ على محمل من الجد ما لم أكن قد اشتهرت.

* لم تُنتقد في آنه وحسب، بل هُزيء بافكارك بما يثبت عكسها. لقد أعلنتَ نهاية التاريخ، إلاّ أن ما حدث فيما بعد كان حدثاً تاريحياً بالتأكيد؟

ـ لقد يأست منذ فترة طويلة من الأمل بأن يتناول ويناقش أولئك النقاد موضوعتي على نحو جاد. والذي لا أفهمه هو أن عدداً ليس بالقليل من هؤلاء هم من الماركسيين الذين لا يرغبون أو يفضلون فهمي بشكل واضح ومقنع. كان عليهم حقاً أن يتذكروا الفكرة التي اعتمدوا عليها وارتبطوا بها، وهي فكرة ان التاريخ يملك غرضاً واحداً، هو الخطو نحو تكامل تشكل المجتمع البشري.
أما الذي قلته، فهو أن التطور قد اوصل المجتمعات البشرية الى غرضه النهائي: الديمقراطية الليبرالية الغربية. وهكذا أصبح، بأفول الشيوعية، اقتصاد السوق والديمقراطية التعددية هو النموذج العالمي بغير منازع. لم تعد ثمة تناقضات تناحرية. لذا فإن افكاري ما زالت قائمة.

* انتهى التاريخ، ولكن واجهتنا أحداث تاريخية مهمة. كيف توّفق بين هذا وذاك؟ ما الذي حصل في 11 سبتمبر؟

ـ بالطبع كان 11 سبتمبر مقطعاً تاريخياً. إلاّ أن ما قلته، بأن عملية التحديث في كل مكان ستصب في الديمقراطية الليبرالية، ومازال هذا القول قائماً وصحيحاً.

* ألا تعتقد بأن الإسلاموية تمثل فكرة جديدة وهامة تتعارض مع الديمقراطية الليبرالية؟

ـ الإسلاموية خطاب معادٍ للغرب، وتشكل هجوماً مباشراً على المباديء الديمقراطية الليبرالية في الغرب، إلاّ أن النزعة الإسلامية تفتقد الى الجاذبية بالنسبة لغير المسلمين. وحتى بين المسلمين ثمة مجموعة صغيرة من البشر تسير في نهج الآسلاموية. أما أغلب المسلمين فيفضلون أن يعيشوا نمط مجتمع غربي حديث.

* إحتفيتَ في العام 1989 بانتصار الرأسمالية، بالخصخصة وباقتصاد السوق. وفي كتابك الجديد " بناء الدول " تؤكد على الأهمية الفعالة للمؤسسات الحكومية القوية، أعتقد بأن هذا الأمر مدهش بالنسبة لشخصٍ محافظٍ مثلك، من جماعة ريغن.

ـ لقد أسيء فهمي باستمرار. لم أكن في أي وقت من الأوقات من رجال ريغن، بمعنى انني كنت أؤيد وأستحسن قلة بروز الحكومة، بل بالعكس. وقد كشفت الأحداث في السنوات الماضية بأن الدول الضعيفة هي المشكلة الكبرى في عصرنا.

* تعتبر من الشخصيات البارزة بين المحافظين الجدد في الولايات المتحدة. لقد دخلت الآن في تناقض مع رفاقك في الفكر، حيث أنتقدت في مقالة لك حرب العراق وأوضحت أوهام وأخطاء حكومة بوش بهذا الخصوص. يبدو ان الأوربيين كانوا محقين على العموم في موقفهم المتشكك. هذا ما تقوله أنتَ أيضاً. أظن ان اصدقاءك لا يريحهم سماع ذلك؟

ـ هل تعرفين بأن المحافظين الجدد يؤمنون بعدة امور، من ضمنها ان الديمقراطية نموذج عام وشامل، وباننا يجب أن نوجه سياستنا الخارجية وفق قيم معينة، وأن نوظّف قوة أمريكا لهذا الغرض. ولكن لايعني هذا، بأي شكل من الأشكال، حتمية الدخول الى العراق. الأوربيون والأمريكيون يرسمون على نحو متزايد صوراً كاريكاتورية كل عن الآخر. وفي أوربا عداء ضد أمريكا، عداء بلا روح.
في الجانب الآخر يقوم العديد من أصدقائي، من المحافظين الجدد، بتشويه جوهر الإعتراضات والإنتقادات والمخاوف الأوربية. وأريد هنا أن أذكّرَ ببعض الأشياء، من ضمنها، ضرورة أن يكون للمرء حلفاء. لذا لم أفهم لماذا بذلت حكومة بوش جهوداً لإغضاب أصدقائنا القدامى.

* حصلت الولايات المتحدة الأمريكية بعد 11 سبتمبر على دعم عالمي قبل ان تخوض حرب افغانستان، و تصرفت آنذاك بحذر. لماذا بددت رأسمالها بعدئذٍ في حرب العراق.

ـ فكر بوش بأن العراق يمثل فعلا خطراً كبيراً. إعتَقَدَ بأن صدام حسين يمتلك أسلحة دمار شامل سيقدمها للإرهابين. وكان آخرون في الحكومة يرون بأنه لا يمكن تفويت الفرصة السانحة لإدخال الأمريكيين في حرب ضد العراق. هؤلاء لم يفكروا ملياً بأن هذا سيغضب الأوربيين مثلما سيغضب قطاعات اخرى من العالم. ربما كانوا يأملون في أن يتوقف انتقاد أوربا عندما يتم اسقاط النظام. ولو تمّ العثور على أسلحة الدمار الشامل لبدى الدخول الى العراق شرعياً. لقد أخطأوا في الحسابات. ويبدو هذا الآن غير معقول، خاصة وان العراق تحوّل الى ميناء للإرهابين. هكذا، من خلال استراتيجية العداء للإرهابين، أصبح خطر الإرهاب أشد.

* لعبة بوكرٍ خطيرة إذاً

ـ نعم ولا. كانت هنالك، في عشرات السنوات الماضيات، أحادية القرار. يجب أن لا ننسى بأن الولايات المتحدة الأمريكية إبان الحرب الاباردة تقدمت الى الأمام ومارست الضغوط على الأوربيين أو ابتزتهم أحياناً. وقد أثرت فيما بعد على الرأي العام من خلال صواب ونجاح سياستها. ولهذا فإن أناس مثل وزير الدفاع رامسفيلد مقتنعون بأن الأوربيين غير متمكنين وغير قادرين على حلّ مشكلاتهم ومواجهة الأخطار، وعليه يتوجب علينا نحن ان لا ندعهم يعيقون عملنا. مرة أخرى أقول: هذا الرأي خاطيء تماماً. فمن خلال عدم اهتمام الحكومة بآراء الآخرين تلحق ضرراً فادحاً بأمريكا.

* ألن يتغير هذا سريعاً بمجيء رئيس ديمقراطي؟

ـ ربما ستتغير نواحٍ في الأسلوب، وسوف لن يتبع جون كيري الطريقة الخشنة التي أدت الى فقدان الأصدقاء. ولكن منالخطأ ومن السذاجة الإعتقاد بأن دخول رئيس ديمقراطي الى البيت الأبيض الى سينهي كافة التوترات القائمة. الأمريكيون والأوربيون يفكرون على نحو مختلف في موضوعات مثل استخدام القوّة العسكرية وفي الموقف من المؤسسات الدولية.

* الى اي مدى؟

ـ ينظر الأمريكيون الى الديمقراطية كمصدر وحيد للشرعية، لذلك فان تقييم الأمم المتحدة بالنسبة لهم يختلف عن تقييم الأوربيين لها. لا يفهم الأمريكيون أي نوع من الشرعية يمكن منحها لمؤسسة ما تترأس فيها ليبيا لجنة حقوق الإنسان. أما الأوربيون فقد عاشوا تجربتهم واكتشفوا بأن الحفاظ على السيادة الوطنية أورثت الكثير من المشكلات للقارة. ومن هنا فانهم يثمنون المؤسسات الدولية بشكل خاص، مما يشكل احد مصادر التناقضات.

* سؤال شخصي. هل انتخبت بوش قبل اربع سنوات؟

ـ نعم.

* وهل تنوي انتخابه مرة اخرى؟

ـ كلا لن انتخبه مرة ثانية.

* إذاً ستنتخب كيري.

ـ هذا أمر ٌ صعب بالنسبة لي، فهو شخصية ضعيفة، وهو انتهازي لا يستقر على رأي..يقول الآن فجأة: ينبغي الإنسحاب من العراق خلال ثلاثة اسابيع. إلاّ أن الكل يعرف انتهازية هذا الطرح لأنه جاء بعد استبيان الرأي العام الأمريكي الذي بيّنَ فرصة نجاحة ضئيلة. وكما ترى من الصعب عليّ الإختيار بين بوش وكيري.