أغنية خالية من الصورة الشعرية ومن اللحن الممتع ومن الصوت المعبر...
وهاهي أمتنا ماتزال تتباكى على ماض تليد، يعلو فوق ظهور الخيول، وواقعات ليس لها من وقع إلا على سطور الخطابات الرسمية، حيث صلوات التبريك لصاحب الدولة والقصر العالي مع وضؤ الزور والأفتراء على شعب، يسرق منه حتى الأمل أحياناً.
فالتلفاز وما يقدمه من صور ليس فيها مصداقية في ملامسة يوميات الحياة العامة. فما تزال الشركات الكبيرة المنتجة معدودة على أصابع اليد الواحدة ، فمنذ انطلاقة الفضائيات العربية أوائل تسعينيات القرن الماضي بتبريك الحكومات العربية، مازالت تنتج أغاني إستهلاكية ببذخ كبير وواضح، هذه الأغاني المسطحة والضعيفة التكوين والمقومات الفنية. الأغنية العربية عموماً منذ العقد الأخير من القرن الماضي، هي صورة غير ثابتة لإيقاع راقص فقط، وهي أغنية خالية من الصورة الشعرية ومن اللحن الممتع ومن الصوت المعبر. فها هي قد إنتشرت مودة (المطرب \ المطربة) والرقص مع مجموعة من فتيات السحنة الأوربية والأجساد الرشيقة المضغوطة بالتدليك ومبضع جراح التجميل لصاحبات السيقان الناعمة، وهنّ لا يحسننّ الا الرقص الشرقي المبتذل، حيث تلاحقهن الكامرا أينما كثر الهز.
إنني لا أسجل خيراً – لهذه الشركات – فيما قدمت من أغاني ذات الجملة الموسيقية الأيقاعية الواحدة المُرَقّصَة وليست راقصة، وهي تجر قصيدة معبئة بغرائز الصبية والصبيان، بلغة فصحى ذات صور ومفاهيم مستهلكة التعابير في الخيال المراهق المسطح. ويأتي بعدها ما هو مكمل ومدروس في إقناع المشاهد ودفعه نحو التقمص والتقليد بإلحاح ذكي وخفي بعناية، من خلال اللقاءات والأخبار والسهرات والتهليل والترغيب والتطبيل بمعية الصحافة اليومية ونقادها، حيث تقديم الدعاية الرخيصة لهذا الملحن الفلاني أو كاتب الأغاني العلاني، وهو ضمن الأعلام الدعائي للشركة المنتجة عموماً.
والأغنية الآن ، أصبحت كسلعة إستهلاكية بحتة، ولا غبار في ذلك، لكن السؤ يكمن في ظل غياب البعد الأهم في صلاحيتها للمستمع والمشاهد، لخلوها من الركائز الفنية الأساسية للأغنية مع تغيب الصوت النقدي الفعال والمتمكن في تحليل المنتوج الغنائي وما تحمل من مستوى ثقافي. إننا أصبحنا وسط مستمع ومشاهد ثقافته الموسيقية لا تتعدى ما تعرضه شاشات الفضاء العربي، حيث مروجي ومذيعي البرامج وأصحاب الأغاني هم أولاً بحاجة الى الثقافة المطلوبة، وكأنني أرى الأمة العربية من المحيط الى الخليج أمة راقصة. فيتضح بذلك إنه تغيب مقصود ومدروس مع سبق الأصرار من قبل جميع أصحاب شركات الأنتاج ومحطات التلفزة لأصحاب النقد المعرفي والبنّاء. والتغيب واضح خلال وسائل الأعلام للحوارات والمناقشات الخاصة والعامة في حدود الموضوعية والمفاهيم النقدية للأغنية، والتي بها يمكن أن تتراكم وتتسع الثقافة الغنائية الموسيقية لدى المتلقي، لكي تفتح أبواب الإثراء في البحث عن الجودة الفنية والمميزات التكوينية الجيدة للأغنية.
لقد لعب الكثيرون من الملحنين والشعراء والمهرجانات العربية الضخمة في تشويه ذائقة المتلقي، وترسيخ مفاهيم مغلوطة عند العامة، التي هي بحاجة لمن يقدم لها المادة الموسيقية المقومة معرفياً ضمن ضوابطها الفنية والمعرفية وغير الخارجة عن السياق التربوي والتراثي، الذي يشكل هويتنا الخاصة في التميز وسط الهويات المميزة لشعوب العالم الكبير فنياً. فقد تناسى الكثيرون إن الموسيقى الغربية لها مستويات متعددة وجوانب فنية مختلفة في التراكيب والشكل والعمق، فنجد لديهم فن الأوبرا الرومانتيكية والهزلية، الأغنية الرومانسية، وأغنية الروك والبوب وغيرها بأيقاعات متعددة بتنوع الموضوعات فيها. كما يرتقي العمل الموسيقي لديهم من خلال السمفونية والكونشرتووالسوناتة وطرق موسيقى الحجر بأنواعها المختلفة. لكن تجار الأغنية يتناسوا كل ذلك، لأصرارهم في إنتاج أغاني ذات إيقاع غربي راقص ومشوه.
ولم يزل أعلامنا العربي- المرئي خصوصاً - وهو المتعاضد والمساهم في شراكة مالية لتكوين الشركات الكبيرة المنتجة للأغنية الهابطة عربياً. وما برح الأعلام العربي ممانعاً في مد اليد العون، لمن هم أجدر في الحفاظ على خصوصيات الغناء العربي. فيا للعجب لصيغ الترويج والتصفيق المتشابهة عند وسائل الأعلام المتزامن في الوقت نفسه للتهليل لهذا الفنان أو ذلك. كما كان العمل أيام نظام " جمهورية الخوف " التي أرهبت العراق عقوداً عدة، حيث روّجتْ وزارة الثقافة والأعلام لأغان سطحية ذات معنى متكرر وساذج لحد التفاهة المملة، خاصة عند سنوات الحرب العراقية –الأيرانية ومابعدها، بفعل آلية رقيب الأذاعة والتلفزيون المؤدلج والخبير بمنع الكثير من الأغاني العميقة بشفافيتها وإنسانيتها الأبداعية، كأغنية " كرستال " للشاعر الراحل ابو سرحان وألحان محسن فرحان وغناء أمل خضير، أو أغنية " همّه ثلاثة للمدارس يروحون " لأبو سرحان أيضاً وألحان كوكب حمزة وغناء مائدة نزهت، أو أغنية " يا ام راشد " ألحان طالب غالي وغناء فؤاد سالم.... وغيرها الكثير مما منع حيث القائمة طويلة. وهذا من الأسباب الذي ضاق الخناق على بعض مبدعي الأغنية العراقية، بما لا يسر تطلعاتهم نحو فضاءات الأبداع المرجوة ، فحتم على الكثير منهم الرحيل نحو المنفى منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، منهم الملحن كوكب حمزة، الملحن حميد البصري،الملحن طالب غالي،الفنان فؤاد سالم،الفنان فلاح صبار، الفنان سامي كمال، والفنان قحطان العطار، الفنان الكبير رضا علي والراحل الملحن كمال السيد، والكثير من شعراء الأغنية أمثال رياض النعماني، كامل الركابي، والراحل أبو سرحان، والراحل سيف الدين الولائي الذي هجّر بدعوة عدم عراقيته. إنه زمن جمهورية الخوف التي روّجت لمفاهيمها كذلك من خلال الأغنية الهابطة والصاخبة بالرقص وسط غبار الدبكة أحياناً.
التعليقات