جدول زمني....
بقلم هناء مال الله
في حزيران عام 1991، دعت دائرة الفنون التشكيلية في العراق عشرة من الرسامين العراقيين من بينهم ثلاث رسامات (1)، لإقامة معارض شخصية متسلسلة لهم في ( مركز الفنون في بغداد )(2) وفق جدول زمني متتالي في العرض. هذا الاهتمام من قبل مؤسسة فنية تعمل ضمن سقف الدولة المتمثل بوزارة الثقافة والإعلام أثار التساؤل من قبل الفنانين المدعوين ولعدة أسباب أولها وأهمها هو : ان الدعوة تزامنت ومستويات الحياة الاجتماعية معطلة بسبب خراب القصف والهزيمة من جراء حرب الخليج التي ابتدأت في 17/1/1991. ثانياً: ان الدعوة وُجهت إلى فنانين شباب كرسوا أسماء لهم داخل حركة التشكيل العراقي من خلال التجريب المستمر والعروض الشخصية والمشاركات الجماعية ومواصلة إبداعهم رغم مناخ حرب الخليج الأولى 1980ـ1988، وميزهم الوعي بقيمة البقاء في العراق رغم خطورة المستوى المعنوي والمادي.
التساؤل الثالث هو : لماذا هذا الدعم الإعلامي والمادي (3) لإقامة معارض تشكيلية في هذه الفترة بالذات ؟ فكان الجواب يتسرب خفية بأنه توجيه من الجهات العليا لتفعيل الجو الثقافي !! أي أن الدعوة ما هي إلا تكتيك ثقافي (وسيلة لاكتساب فائدة مؤقتة) القصد منه طلاء الخطأ السياسي الذي تؤشر له الهزيمة في الحرب بوضوح.
* * *
هذه الخطوات التكتيكية الثقافية التي كانت تتبعها المؤسسة الفنية في العراق والمتمثلة بدائرة الفنون والتي كانت تخطط للثقافي العام ( المدني ) لخدمة الخاص ( السياسي)، هو ما سوف تبين النتائج مسؤوليته عن عرقلة المسار التصاعدي للفن التشكيلي العراقي وتصادر "طليعيته " ؛ إذ كانت من النتائج هجرة الرسامين، واستقالة أساتذة الفن التشكيلي من مواقعهم في معهد الفنون الجميلة، وكلية الفنون الجميلة، وانسحاب البعض وصمته، وتحول الطاقات الإبداعية الشابة واستهلاكها بالرسم التجاري، أو رسم ونحت الصور والتماثيل الشخصية السياسية حسب.
وما يوضح القيمة المؤقتة لاهتمامات المؤسسة الفنية هو إنها تعاملت بإهمال ولا مبالاة مقصودة، رغم الوضوح في احتكام الفنان التشكيلي العراقي إلى نقطة نادرة تاريخياً" ثقافياً وحضارياً"، تمنحه ( أي الفنان العراقي ) تفرد إنجازاته وريادته بالنسبة للمنطقة المحيطة به وللوطن العربي. ومن المشاركات من الممكن ان نؤشر إلى تجاوز طروحاته مستواها المحلي إلى المستوي العالمي وبهوية واضحة.
* * *
النقطة الخصبة التي يحتكم إليها كيان الفنان التشكيلي العراقي تتأسس من تلاحم ثلاث أطراف هي : أولا : الإرث الحضاري الرافديني العريق، وثرائه وقابليته على الترويض لإنتاج ما هو مبتكر، ومطاوعة هذا الإرث السحيق في القدم على التوليد المستمر للقيم الفنية والجمالية من ميزاتها انها تنفلت من أي تحديد زمني.
ثانيا: ان التشكيلي العراقي متحفظ في الاستعارة من الآخر ( الغرب ) وفي التأثر به، أي انه يستعير ويتأثر إلى الحد الذي يحفظ فيه هويته الحضارية من التشتت، ونساند قولنا هذا بما تحقق من انجازات للتشكيل العراقي منذ تأسيسه ولحد الآن، أي ابتداءً من ( مدرسة بغداد للفن الحديث 1951) ومؤسسيها ( جواد سليم 1920 ـ 1961) و ( شاكر حسن آل سعيد 1925 ـ ؟) و ( جماعة الرواد 1950 ) ومؤسسها ( فائق حسن ـ 1914 ـ 1990 ) مروراً بإنجازات ما يصطلح على تسميته نقدياً بجيل الستينات وجيل السبعينات ( مع تحفظ كاتبة المقال على مصطلح جيل ).
الطرف الثالث : البيئة العراقية التي تتمتع بثراء وتنوع يتشاكل مع ثراء وتنوع الموارد الطبيعية، وهذا يؤهله لان يقف في منطقة واسعة تمنحه التنوع كما ان ثراء المنطقة يجعله يقف في نقطة مادية تمكنه من تأسيس رواج للأعمال الإبداعية. وقولنا هذا نسانده بالتنوع الهائل للتشكيل العراقي ؛ فلم تظهر حداثة واحدة بل شبكة من الحداثات وكأنها تختصر بمدة نصف قرن ( منذ تأسيس الفن العراقي ) قرون التوقف السابقة.
رغم ان وضوح تلاحم هذه الأطراف كان مسؤولاً عن تحقيق فرادة التشكيل العراقي وطليعيته، فإن إعدام هذه الأطراف وتعطيلها الواحد تلو الآخر من قبل المؤسسة الفنية والتي يتحكم بها " التكتيك " السياسي ككل كان بيَّـناً من خلال عينة الرسامين المدعوين للمشاركة الذين أسلفنا ذكرهم في بداية المقال ؛ إذ ان الرسامين الذي مُنحوا فرصة المشاركة كانوا قد حُرموا، كما حُرم من يقف في مستواهم عمرياً وثقافياً واجتماعياً، من السفر والدراسة إلى الخارج عموماً، وأوربا وأمريكا على وجه الخصوص، وفُرض عليهم انقطاع ارغامي عن الاتصال الحقيقي بالاخر ( الخارج )، واقصد بالاتصال الحقيقي المعايشة بالسفر وزيارة المتاحف العالمية المركزية ومشاهدة أصول الأعمال الفنية واللوحات المعلّمة فنياً وتاريخياً، واكتفوا مُرغَمين بالصور والكتب كمرجعيات لمعرفة ما يجري خارجاً. وأثناء القطيعة الارغامية والمفاجئة عن الغرب التي كان لها دور التحفيز لتأسيس الحركات الفنية في العراق وايضا في التجديد والمواصلة لجيلين آخرين هما جيل الستينات والسبعينات، واثناء تراجيديا جيل الثمانينات الذي واكب تكوينه قيام حربين في العراق، هذا الجيل امتلك يقيناً مهزوزاً بالاكتفاء بالمرجعية للحضارة الغربية اثر الحروب، ورجوع الجيل بدافع وعي ضاعفه المواقف الحرجة على الصعيدين الإبداعي والوجودي إلى الالتفات إلى الإرث والبحث فيه بجدية. أثناء ذلك قامت المؤسسة السياسية بإغلاق ابواب المتحف العراقي للاثار عام 1990 ولم يفتح الا في 30 / 7/2000، وبهذا اعدام الطرف الاخر والمتمثل بحرمان فنانين ذات الجيل من المعايشة البصرية للاعمال المتحفية التي كانت تشكل مرجعاً اساسياً بعد إلغاء السفر والغاء الاطلاع على التنوع الحضاري الخارجي، وايضا اصبح وجود المتحف بالنسبة لنا متمثلا بصور التماثيل واللقى الموجودة في الكتب القديمة.
وهكذا فقد عرقلت المؤسسة الفنية في العراق، وبسبب الإهمال، آليات ومحفزات التأسيس والمواصلة للتشكيل العراقي مهملة التفكير في امثلة مشرقة فيه، مثل كيان ( جواد سليم ) الفني الذي تلقى تدريبه الفني ودراسته في اوربا وعندما عاد إلى العراق اشتغل في المتحف كمرمم للآثار، فكانت المعايشة البصرية والحسية للقى المتحفية أثرها البالغ في شحذ موهبته واستنهاض جذره العريق لينجز مشروعه الحداثي. والموقف الإبداعي نفسه حدث مع أستاذي ( شاكر حسن آل سعيد ) الذي عايش وتدرب ودرس الفن دراسة حرة في باريس، وعندما عاد كان يسكن المتحف ويصطحبنا، وبشكل أسبوعي ودوري، إلى المتحف العراقي للآثار.
إن الهدم الذي مارسته المؤسسة عبر إيقاف الخبرات التراكمية للتشكيل العراقي والتي بُنيت بجهود شخصيته، وذلك بوضع العراقيل ومن بينها فرض عزلة تامة على الفنانين الشباب، كان يغذي لديها عقدة النقص التي استفحلت مقابل عقدة التفوق لدى الآخر الغربي، مغفلةً ان التشكيلي العراقي بجذره الحضاري العريق أذكى وأرسخ من ان يستعير دون هوية من الآخر ( الغربي ) بجذره التكنولوجي، وهذا ما يتضح من النشرات الداخلية لوزارة الثقافية والفنون إذ وردت فقرات في أحدها تصنف الفن التجريدي كمسارٍ غربي معتقدةً خطأ أن التشخيص هو الذي يمثل مسار المحافظة على تراثنا !!.
هنا ينطرح سؤال : ماذا بقيّ الآن من التشكيل العراقي في الداخل كحركة ؟ هل هو أطلال لبوادر ريادية استهلكت وقتها ؟ من الذي سوف يستمر ويؤسس بشكل حقيقي له ؟ وكيف بالاستمرار في ظل حياة معنوية ومادية مشوهة ومرجعيات للفن معدومة ؛ فلا تلاقح مع الحضارات عبر الاتصال المتكافئ، ولا مشاهدة حقة للإرث والحياة اليومية معطلة بالحروب وترفض الاحتفاء بها ؟
هل يشكل زلزال القصف والاحتلال الأمريكي البريطاني، ونهب المتحف العراقي للآثار وخراب الحياة وعطلها، أطراف ثلاثة جديدة ؟
إن ما أنجزه جيل الثمانينات ( الرسامين المدعوين (4))، رغم معايشته للحروب وتلمسه تطبيقيا لتعطيل بقيم الدكتاتورية العسكرية، وسحق نقاط الإضاءة لدى التشكيلي العراقي، من قيم إبداعية وجمالية تقع خارج حدود الاستعارة، تجعل من الممكن ان توضع ركائز لفن طليعي عراقي يستنهض قوته من أطلاله.
الهوامش
(1) الرسامات هن : ( ايمان عبد الله ـ الان في المانيا ) و ( ايمان علي ـ الان في هولندا) و ( هناء مال الله ـ العراق ).
(2) مركز صدام للفنون سابقاً.
(3) أبلغ مدير مركز صدام للفنون الرسامين المدعوين بان المركز يقوم بشراء عملين من كل فنان يقيم معرض شخص ضمن المجموعة، وان تصاريف المعرض من إعداد الدليل وحتى طبعه على نفقه المركز، إضافة إلى طبع الدعوات والإعداد الإعلامي للمتعارض.
(4) من الأسماء : فاخر محمد، عاصم عبد الامير، حيدر خالد، كريم رسن، هاشم حنون، ضياء الخزاعي، إيمان عبد الله، ايمان علي، ستار كاووش، ابراهيم رشيد، شداد عبد القهار، هناء مال لله، هيثم حسن.
التعليقات