اني تصاعدتُ من بحيرتكِ غيمةً، هطلتْ على الأودية،
وفوقكِ اتشحتْ بالبياض، واني،
بين "بلى" كُنتِها منذ بطشَ الضوء بالعتمة
الحنون، و"بلى" ستكونينها حين
تعيدنا معاً عتمة أحنّ، طوال عهد
الضياء الضرير، كنتُ "لا".
توفيق صايغ
1971-1923
في العام 1954 صدرت مجموعة توفيق صايغ الشعرية الأولى "ثلاثون قصيدة"، هذه المجموعة التي أثارت عاصفة من الآراء المتباينة حولها تراوحت بين الرفض المطلق والإحتفاء اللافت، وقد قال فيها ميخائيل نعيمة: "ثورة ضمن ثورة" ورأى فيها مارون عبود "صوفية متمردة وفكرة عنيفة" وهتف سعيد تقي الدين: " لقد صرعني هذا الكتاب" وقال عنها جبرا ابراهيم جبرا: " أجرأ وأعمق ما صدر في العربية من شعر" ووصف أُنسي الحاج " ثلاثون قصيدة " بـ "امرأة يعاد إليها في الجوع السرمدي" وفي مقدمته للكتاب قال فيه سعيد عقل:"ان كتابه لا ليُقرأ. إنه ليغدو خلجات فيك".
والآن بعد مرور خمسين عاماً على صدور "ثلاثون قصيدة" وأكثر من ثلاثين عاماً على غياب شاعرها، كيف ننظر إلى تجربته؟ هذه التجربة التي لا يمكن تقييمها، أبداً، بعيداً عن اللحظة التي احتضنت هواجسها وشهدت تبلورها، وهي على اية حال لحظة محتدمة في تاريخ الشعر العربي، إذ لم يكد الحبر يجفّ بعد في قصائد "الرواد" الأولى التي زحزحت عمود الشعر وما أثارته من ردود فعل حتى أتت الصدمة الجديدة والصفعة الحقيقية للمشدودين للعمود، المتمثلة في نمط شعري جديد تماماً هو قصيدة النثر، الشيء الذي عناه ميخائيل نعيمة بقوله "ثورة ضمن ثورة". وقد كان توفيق صايغ سباقاً من بين جميع مجايليه إلى هذا النمط الشعري، حيث صدرت مجموعة جبرا ابراهيم جبرا "تموز في المدينة" عام 1959. "حزن في ضوء القمر" للماغوط 1959 أيضاً. "لن" أُنسي الحاج 1960. و"ماء إلى حصان العائلة" لشوقي أبي شقرا 1962. هذا بتجاوز مجموعتيه الأولى والثانية: "أكياس الفقراء" 1959 و "خطوات الملك" 1960 إذ كلاهما موزون، مقفّى.
وباستعادتنا هنا لشعر توفيق صايغ كأننا نجيب ضمناً على السؤال الضروري للناقد الإنكليزي"ف. ر. ليفز" ، في كتابه الشهير "اتجاهات جديدة في الشعر الإنكليزي": من سَيقرأ هذا الشعر بعد مائة عام؟
عبر "ثلاثون قصيدة" نقرأ هذا الشعر بوصفه روحاً ولا نعود نسأل، أو يجول في خاطرنا أصلاً السؤال عن هذا النوع من الكتابة. قصائد تشهر لحظتها الشعرية خارج سيل من القوالب، تتمرد على منطقها ذاته، وهي حتى هذه اللحظة تحتفظ بجرأتها عبر وجوه سافرة عدة كالسخرية السوداء، كسر الصنمية في الكثير مما هو متعارف ومتواطَء عليه، استخدام مفردات وتعابير عامية في سياق جاد جزل وكذلك عبر البوح في استعراض سيرة لا يتهيب من بسط اكثر الشؤون شخصية وسرية أمام ملأ ٍ قارىء.
تصدر قصائد هذه المجموعة عن روح قلق ممسوس يدرك الخطيئة ويشرئب الى الصفح، ُمبالٍ وغير ُمبالٍ، يبدو بفظاظة المتهتك، حيناً، و وداعة المتصوف في أحيان أخرى.
ربما توفيق صايغ في شعره وسيرته تعبير عن روح جيل كامل مخذول و موسوم بالخيبات، غير انّ بصيرة الشاعر ورؤاه قد تخطته بعقود. فما يكون نصيب مثل هذا الرائي، المحترق صدقاً وجرأةً كحدّاد في وطن من فخّار؟ ـ باستعارة وصف الماغوط لزكريا تامرـ. يبدو ان لا نصيب له وهو الذي يصرخ ( أأفقأ عينيّ كي لا أشهدَ قبيحا؟) سوى ان يذهب، كما يقول الشاعر عبد القادر الجنابي ( شأنه شأن الكثير من الناس والأفكار ضحية غوغائيي موسكو المعروفين بمحاربتهم لكل جديد بتهمة انه ثقافة عميلة و بورجوازية. ـ ويأمل الجنابي ـ ان يظهر ناقد جدي يستقصي الستينات العربية ويكشف الدور المجرم الذي لعبته الحركة الشيوعية في تدمير حاسة الإبداع لدى العربي وإعاقة سير المخيلة العربية). فراديس العدد:6 ـ 7.
وفي الوقت الذي كان فيه "الشعراء" مأخوذين ببريق الشعارات وسطوة العسكر وانقلاباتهم، يدبجون لانتصاراتهم الأناشيد. كان توفيق صايغ منهمكاً بكتابة نشيده الخاص لبلاده "الخاصة" التي يراها الشاعر ببصيرة قلبه على حقيقتها:
............
لا لأنك شختِ:
ففي اغبرار الذوائب وقارٌ
وللتجاعيد فعلٌ قصَّرَ عنه الغُضوض.
ولا لأنكِ إذ تنحّتِ الأضواءُ عنكِ
احتضنتِ المعاهد
أو افتتحتِ المياتمَ أو جمعتِ التبرعات.
لا يا بلادي:
وكنتُ إذاً لأهواكِ
وأغنّي جمالاً يتدرّجُ وما يزول،
وكنتُ إذاً أزوركِ
وأحرِمُ إذ أزور.
لكنكِ تكللت مع المشيب بالهوان
ونفضتِ عنكِ ذكرى زوجكِ والشباب
كأنهما غبارٌ على جسمكِ المعفّر،
لكنكِ أخصيتِ بنيكِ
ورأيتُهم طأطأوا الرأسَ لذكراكِ،
وتمرغتِ مع هذا وذاك من منحرفي الميول
(وكيف أصدق ما يُقال عن ماضيكِ
يا بلادي
أنا الذي رأيتُ بيتكِ واضواءهُ الخافتة؟)
قصيدة: نشيد وطني
يفصح شعر توفيق صايغ عن انقسام، وتصادم أضداد هو تتمة لروح صاحبه. يقول: "في لحظات الذرى رأيتُ الهاوية"، انّ من شأن عبارة كهذه الإيحاء برؤية صوفية يصدر عنها، في الحقيقة، مجمل نتاجه الشعري، وإن ندتْ عنه صيحات التمرد.
ألمثل هذه الرؤية ينسبه "سعيد عقل" أيضاً، في مقدمته، ليعدّ الضجر (خطيئة). الضجر الذي يقود إلى الإحتجاج:
هل أكسر القمقم وانفلت؟
أم اقبع فيه راضياً، كما بقصر؟
القصيدة:6
مَصيفي الفراغ،
مَشتاي الفزع،
وعَيشي قطارٌ بينهما
صفيرهُ
ثمّ ماذا؟
مع قهوة الصباح
ثمّ ماذا؟
القصيدة: 4
الرجاء متابعة تكملة الموضوع، إذ حدث خلل فكان هذا الفراغ القسري
يمكن قراءة توفيق صايغ وفقاً لأكثر من تصور واتجاه، كما ان قارئه يقع على ضالته المبتغاة، إن كان يبحث عن صورة أو معنى، عن فكرة أو حلم عن تمرد أو مسالمة، عن شعر حب وما أكثره لدى توفيق وإنْ لازمَهُ أسىً:
كالبرقة في منتصف ليلٍ شتوي
ومَضْتِ،
كالبرقة لمعاناً وخطفا،
لا رائدةَ غيثٍ ولا بشرى ربيع.
لمعتِ، ولمعَ الأفق،
واختفيتِ أبداً، وكأن ما كانَ ما كان.
..................
وانا إناءٌ من الزهر خلو،
فكنتِ الزهر: لكنْ ما كانَ أسرعَ ما فني،
وانا ديوانٌ ليس فيه شعر،
فكنتِ الشعرَ: لكنْ ما كانَ أقصر غمرته،
وأنا هيكلٌ غاب عنه القدس،
فكنتِ القدسَ:
قدساً وأشتهيتُكِ.
القصيدة: 16
لعمري ما رأيتُ يداً تقطفُ قرنفلةً
إلا ورأيتُ دمعةً تحتها انتصفتْ،
واندلعت على ستارٍ
أمام عينيّ وخلفهما
مشاهدُ السبي في الماضي الزريّ،
واختطاف العذارى،
وصفوف الأطفال في ما يسمونه بساتين.
أنا أعرف أنّ القرنفل للقطف
وأنّ أيامه في الروض
كأيامه أنّى يكون،
وأنّ للقرنفلة البيضاء رسالةً
لا يسمعها غيرُ بستانيٍّ أصمّ
إلى أن تُحزَّ
.............
وأعرف أنها قد تتنقّل من يد المحبّ ليد الحبيب،
وقد تنتصب لترى ذاتها ترتسم لوحة،
وقد تُرشُّ والأسى فوق ضريح..
قصيدة: سيكلوجيا رجعية
حقاً لقد كان أجرأ الأقلام المشرقية هذا الفتى المضطرب، المحرور العينين، كما يصفه "سعيد عقل " في مقدمته المكتوبة في الأول من أيلول 1954. ويقول: يكاد يعيد النظر في ماهية العطر، وكيف يُقصد لا ُينتظر موعده، ويعيد النظر كذلك في اصول قصّ الشفق وكدسه وردةً تشتعل في الخاطر.
إذاً خمسون عاماً على مجموعة شعرية رائدة، تتأكد جدتها وشعريتها كذهب لا تزيده الأزمنة إلاّ ندرةً ولمعاناً.
* أُعتمدت هنا "ثلاثون قصيدة" في طبعتها ضمن: "الأعمال الكاملة" الصادرة عن رياض الريّس للكتب والنشر، الطبعة الأولى، نيسان 1990.
التعليقات