تلفزيون الواقع...و الواقع:
يبدو أن ضبابية مصطلح " تلفزيون الواقع" هي أول ما يصادف المتأمل لتطور برامج التلفزيون وقنواته، فتلفزيون الواقع ليس نقيضا لتلفزيون الخيال إن وجد أصلا ، وهو بجرأته و ووقاحته لا يعبر عن الواقع بالتأكيد ، لقد تبنى الكثيرون مصطلح " تلفزيون الواقع" و روجوا له انطلاقا من ترجمتهم لكلمة la télé réalité الفرنسية و المأخوذة أصلا عن الكلمة الانجليزية Reality TV، ويبدو مصطلح " تلفزيون الواقع " غير معبر عن حقيقته، فمواده تخضع لتصور مسبق ولسيناريو محكم لا يخضع للثبات بل يتم تعديله بما يسمح تحقيق أعلى نسب المشاهدة ، برامجه أيضا تقوم على أسس انتقائية في تحديد المرشحين، انطلاقا من اجتياز عدد من الاختبارات، مرورا بالقدرة على التعبير و الابتكار، وصولا إلى معايير الجمال و الوسامة، وبما أن الصورة التلفزيونية هي نتاج عملية توضيب الصور،انطلاقا من زوايا ومشاهد ولقطات المصور التلفزي، وبناءا على رؤية المخرج و اختياراته، فإن مصطلح تلفزيون التصوير الواقعي على قلة استعماله يبدو أكثر دقة لأنه يصور و يسجل عددا من الأحداث و الوقائع كما هو عليها الحال في الواقع، و على غرار القنوات المتخصصة في الجنس و الرياضة و الموسيقى التي تناسلت آواخر القرن الماضي، يمكن تصنيف تلفزيون التصوير الواقعي كتلفزيون متخصص في تصوير أحداث واقعة وقصص حاصلة وتحصل وأصحابها هم "مؤلفوها" أنفسهم.
ما زال الخلط قائما بين قنوات تلفزيون التصوير الواقعي و بين برامجه، فما يعنى بالأولى هي قنوات متخصصة و موسمية تبث على مدار اليوم، غالبيتها العظمى يتم مشاهدتها عن طريق الاشتراك ك(ستار أكاديمي النسخة الفرنسية، لوفت سطوري و الأخ الكبير )، بينما أخرى تعتبر مجانية كقناة عاللهوا سوا اللبنانية و قناة ستار أكاديمي في نسخته العربية، وتبدو مجانية القناتين فرصة من أجل التعريف و خطب ود المشاهدين العرب،وعلى النقيض من ذلك فبرامج تلفزيون التصوير الواقعي تنبني على عدد من الريبورتاجات و البرامج الحوارية المبنية على شهادات و اعترافات خصوصية يتم فيها عرض مشاكل المشاركين ومعاناتهم في البحث عن شغل، أو في تربية الأطفال، أو في تحدي الإعاقة أو في البحث عن حبيب،وإذا كانت غالبية قنوات تلفزيون التصوير الواقعي غير مجانية، فإن برامجه في متناول الجميع و خاصة في القنوات العمومية، فبينما كانت قناة الأخ الأكبر تبث على مدار اليوم في هولندا، اكتفى العديد من مريدي الأخ الأكبر بمشاهدة المواجيز اليومية مجانا على القناة العمومية الهولندية.
في البدء كان برنامج العائلة :
يؤرخ البعض لظهور برامج تلفزيون التصوير الواقعي بانطلاقة الأخ الأكبر سنة 1999 متناسين الإرهاصات الأولى من خلال برنامج العائلة الأمريكية سنة1973، و كان البرنامج يقوم بتصوير يوميات عائلة أمريكية في سانتا باربارا ، و يقوم بتلخيص هذه اليوميات و عرضها حلقات على قناة pbs، و قد راقت فكرة البرنامج لكثير من المنتجين و القنوات، فكان برنامج العائلة في ال BBC سنة 1974 و الذي نال استحسان المشاهدين من خلال متابعته لأفراح و أتراح عائلة عمالية تعيش في ريدنغ ، لتتوالى برامج تلفزيون التصوير الواقعي في الولايات المتحدة الأمريكية، أستراليا، بريطانيا و كندا.
و شكل عام 1996 منعطفا في تاريخ تلفزيون التصوير الواقعي من خلال برنامج المطار على شاشة BBC و الذي يدور حول الحياة اليومية لعدد من الأشخاص المستخدمين في مطار لندني، و قد حقق برنامج المطار مكاسب مالية مهمة كما أنه بسط المجال لتناسل برامج تلفزيون التصوير الواقعي أكثر جرأة و أكثر خصوصية.
و تعتبر قناة الأخ الأكبر التي بدأت بثها سنة 1999 الانطلاقة الحقيقية لقنوات تلفزيون التصوير الواقعي، في وقت شهدت فيه الفضائيات و نظام الاستقبال عبر الكابل تطورا هائلا، نجم عنه تعدد القنوات المتخصصة الاخبارية و الفنية و الرياضية، و قد امتد الأخ الأكبر ليشمل عدة شاشات عالمية. وفحوى البرنامج أنه يختار عدداً متساوياً من الشباب والبنات بناءً على امتحان معيّن أو بواسطة اختيار عشوائي لأسماء متصلين للمشاركة بالبرنامج، ثم يوضعون في مساحة من الاسمنت المقنّع بألوان الطلاء الزاهية والأثاث الشبابي ليعيشوا بضعة أشهر تحت رهبة سبعين أو ثمانين كاميرا تلاحقهم في السراء و الضراء.
لم يمر الأخ الأكبر مرور الكرام، فواجه سيلاً عارماً من النقد، و أصبح محوراً أساسا لنقاشات كتّاب ومفكرين وسياسيين وقانونيين بحثوا في شرعية الأمر ومدى مواءمته لفكرة حرية الفرد التي يقول المجتمع الغربي انه حريص عليها. وقد كانت أمواج هؤلاء النقاد المعترضين تتكسّر عند صخور الجماهيرية الكبرى للبرنامج الذي لاقت فكرته الجديدة شعبية خولته الاستمرار برغم أنف الجميع.
عندما تصيب حمى تلفزيون التصوير الواقعي فضائياتنا العربية :
لا يضيع العرب فرصة لمواكبة "التطور" العالمي في مجال الإعلام و الاتصال، فاقتبسوا برامج تلفزيون التصوير الواقعي، وفي أحيان أخرى ترجموا البرامج حرفياً سارقين الجمل بما حمل، وفي مرات قليلة كانت حقوق البرنامج تُشترى من الجهة العالمية المنتجة، كما هو حال "ستار أكاديمي" على شاشة المؤسسة اللبنانية للإرسال ( LBC )، وفي كل الحالات يظهر الأمر استلاباً أمام الوافد الجديد من دون أن يحاول القيمون على الأمر توليف الفكرة لتشبه مجتمعنا وحضارتنا، و بالرغم من اختلاف تسميات قنوات تلفزيون التصوير الواقعي فهي لا تحمل في ثناياها تعددا يصل إلى درجة التميز في فكرة البرنامج و مضمونه و من نماذج تلفزيون التصوير الواقعي في عالمنا العربي : ع الهوا سوا : وهي قناة خاصة تقوم على فكرة اختيار عروس من بين عدة فتيات تم اختيارهن بعد أن طرحت الفكرة عبر بث إعلاني دام أشهر..حيث تعيش الفتيات طيلة اليوم كاملاً تحت أنظار الكاميرات التي تقدم طبائعهن للجمهور الذي يساهم في انتخاب العروس من بينهن و التي ستختار فيما بعد خطيبها المفضل.
ستار أكاديمي : قناة lbc الفضائية اللبنانية بالاضافة إلى قناة خاصة تحمل اسم ستار أكاديمي.
يجمع ستار أكاديمي بين عدد من الشباب و الشابات في إطار أكاديمية لا تتوفر على مكتبة تتولى تطوير الحالة الإبداعية لدى هؤلاء على صعيد الصوت و التمثيل و الفنون السمعي بصرية و يقوم البرنامج ببث كامل لوقائع هذه العميلة 24على 24 و يقوم الجمهور بالتصويت لإنقاذ واحد من ثلاثة تحددهم لجنة أساتذة الأكاديمية على أن يقرر الطلاب البقية مصير الاثنين الباقيين.. و تقوم الكاميرات برصد كل ما ينجم عن التصويت و تداعياته على الهواء مباشرةً... الرئيس : نسخة من برنامج الأخ الأكبر بتثه قناة mbc علاوة على قناة خاصة، تم ايقافه بعد بث حلقتين منه.
لقد شكل تلفزيون التصوير الواقعي صدمة للمتلقي العربي بكسره عددا من الثوابت و خرقه للأعراف الاجتماعية و الدينية، و ما يعاب عليه هو عدم ملامسته لعدد من القضايا التي تحمل هما انسانيا و بعدا اجتماعيا، ففي بريطانيا و الولايات المتحدة مثلا عرضت برامج تقوم فكرتها على زيارة و إقامة أحد الوزراء في مسكن عائلة تعاني متاعب عدة،يقوم أفرادها بطرح مشاكلهم للوزير، الذي يسعى لايجاد حل للعائلة من دون ان يقوم بانقلابات سحرية.
و يستمر تدفق برامج تلفزيون التصوير الواقعي المستنسخة على عالمنا العربي، مشكلة نوعا من التبعية الذي لا يمكن فصله عن تبعية في مجالات أخرى تتفاعل فيها مؤثرات داخلية وخارجية ، بشكل يؤدي إلى تدعيم كل ما ينتج عن كل انواع التبعية من هيمنة إيديولوجية وسلوك استهلاكي، وبينما يستطيع المشاهد الغربي إطفاء زر التشغيل في جهاز التلفزيون والتوجه إلى فنون بصرية أخرى ممتعة ومتعددة يبقى المشاهد العربي خاضعا في بيته لسيطرة التلفزيون الذي قضى على الفنون البصرية الأخرى بشكل شبه كامل.
لقد وجد المشاهد العربي في تلفزيون التصوير الواقعي ذلك الملاذ الانبهاري الذي يلجأ إليه ولا شك من أن ذيوع صيت برامج تلفزيون التصوير الواقعي في عالمنا العربي يرجع أساسا لتهافت المشاهدين و حرصهم على متابعتها و السعي للتواصل مع أبطالها.
تلفزيون الكسب المادي و انتهاك الخصوصية و قبر النجومية :
يعتمد تلفزيون التصوير الواقعي على تمويل عدد من الرعاة الرسميين مقابل عرض شبه متواصل لإعلانات عن منتجاتهم، و تعتبر الرسائل و الاتصالات الهاتفية مصدرا مهما لعائدات منتجي برامج تلفزيون التصوير الواقعي الذي أصبح صناعة مربحة، تفرع عنه بالإضافة إلى الصوت و الصورة عدد من المنتجات كالمجلات و الملابس و العطور و الألعاب و الملصقات التي ترمز لأبطال تلفزيون التصوير الواقعي، وتستهوي قلوب عشاق هذه البرامج.
و تحالف تلفزيون التصوير الواقعي مع شركات الاتصالات الهاتفية تحالفا تجاريا، لا يوجد أي رادع انساني وحقوقي يمنعهما من القيام بالكثير من التجاوزات التي تخدم مصالحهما، فلدى رغبته في المشاركة او التصويت في برامج تلفزيون التصوير الواقعي، يرى المشاهد "المستهلك" كلفة الاتصال أو كلفة إرسال رسالة خليوية مكتوبة على شاشة التلفزيون، بحروف صغيرة جدا، و لا يدرك العديد من المشاهدين أن التواصل و التفاعل مع تلفزيون التصوير الواقعي يعتبر تسلية جد مكلفة، وليست مجرد تمرين ديمقراطي للتصويت أو لإبداء الرأي.
وفي الوقت الذي كرست فيه منظمات حقوق الانسان جهودها لحث الحكومات و الأنظمة على احترام خصوصية الأفراد يأتي تلفزيون التصوير الواقعي ليهتك مبدأ "الحق في صيانة الحياة الخاصة" فكاميرات تلفزيون التصوير الواقعي تصاحب المشاركين في حلهم و ترحالهم ، و تنقل لنا جدالهم، أحاديثهم و نميمتهم، و لا تتوقف سوى أمام المراحيض حيث يتم الاستعاضة عن الكاميرا بالميكروفون، لقد استطاع تلفزيون التصوير الواقعي تحطيم عنصر الخجل الذاتي لدى المشاهد، و حول التلصص إلى عنصر إمتاعي، فالمشاهد يستمتع في التلصص الذي يقوده نحو الدخول في حالة إيهامية تجاه "الأبطال" المشاركين، ليتبنى عبرهم مواقف أخلاقية أو إنسانية يومية ترضي النزعات المفقودة لديه ، و في المقابل يستمتع المشاركون بحالة المراقبة و تسليط الأضواء عليهم، بما يحولهم إلى مصاف النجوم الذين تهف إليهم الأفئدة بعد أن أمسوا المادة الأثيرة لكاميرات و عيون المشاهدين ، غير أن تلفزيون التصوير الواقعي لا ينتخب سوى نجما واحدا، و بينما يحتفظ البعض من المشاركين بذكريات جملية و صداقات نجمت عن المشاركة في برامج تلفزيون التصوير الواقعي، و فتحت أمامهم فرص العمل في تقديم البرامج التلفزيونية ، و احتراف التمثيل و الغناء ، تقبر أحلام باقي المشاركين الذين استأنسوا بأضواء الشهرة.
كنزة هجرت العراق إبان حرب الخليج الأولى لتقيم في فرنسا لتشارك فيما بعد في برنامج لوفت ستوري و هو النسخة الفرنسية من الأخ الأكبر، و رغم أنه لم يطب لها المقام كثيرا في البرنامج إلا أنها استمرت في الظهور على شاشات التلفزيون الفرنسي للحديث عن تجربتها المرة في العراق، و تعدى الأمر ذلك فوضعت كتابا حول العراق و أوضاعه الاجتماعية، كنزة الأن تشتغل لحساب قناة فرنسية خاصة صورت لها مؤخرا استطلاعا حول العراق الجديد حظي بالثناء من لدن الأوساط الاعلامية الفرنسية، و إذا كانت كنزة مثالا يقتدى به من طرف المهووسين بالاشتراك في تلفزيون التصوير الواقعي، فإن إيزابييل و هي فتاة فرنسية تخلت عن و ظيفتها كمعلمة من أجل المشاركة في النسخة الثانية لبرنامج ستار أكاديمي حاملة معها طموحاتها و أحلامها في أن تصبح مغنية شهيرة ، وبعد أن سلطت عليها الأضواء أزيد من شهر، غادرت البرنامج مرغمة بعد فشلها في الحصول على أصوات المشاهدين، إيزابييل وضعت بيضها في سلة واحدة وهي الآن مستمرة في البحث عن شركة انتاج من أجل أن يرى شريطها الغنائي النور.
انقر على ما يهمك:
عالم الأدب
الفن السابع
المسرح
شعر
قص
ملف قصيدة النثر
مكتبة إيلاف
التعليقات