لم يتسع بوح الشاعر الكويتي محمد هشام المغربي في ديوانه "أخبئ وجهك فيّ.. وأغفو" خارج نافذة الذاكرة التي تطل على مساحات تتلاشى مع الأيام، وعبور الوقت. فرغبة الشاعر تنضح في كثير من القصائد عن حنين لتفاصيل حياة كانت حاضرة ذات زمان ومكان، وهو كأن مهمته أن يذكرها، أن يستعيدها عبر اللغة علّها لا تسقط في النسيان.
هل مهمة الشاعر هي إعادة خلق ما مات مرة أخرى؟ هل من واجبه أن يلملم نثر اللحظات ليعيد تركيبها في صياغة عالم جديد اسمه اللغة؟.
ذاكرة المغربي لا تكف عن قتل الحاضر باستحضارها الماضي، وكأن الحياة لا تكون إلا بالوقوف في لحظة ما في الماضي لنشعر أننا نتنفس. فـ "ماء التذكر" و "جبين التذكر" يتجسدان في سراديب متشعبة إلا أن هدف المغربي واحد، هو رفضه للواقع والمطالبة بإلحاح عودة "الزمن الجميل"، لأن "كذّابة هذي الحياة" (55).
يقول:
"مات الزمان الجميل!" (25)
"أيام كانت قريتي.
أمي تقوم كالصباح تصنع الفطور رائقا،
وأختي السمراء خلف دارنا لتطعم الدجاج،
والقطا يحطّ – لا يخاف،
والمدى بلابل،
ووالدي بحُلّة القرآن يأتي صوته،
ويعبق البخور. (19)
ويمضي الشاعر مستعيدا تلك الصور المتسربة من حياته الأولى، ليقول:
"ليته يعود سقف بيتنا الذي ينزّ حين يهطل المطر".
"وتهدأ السماء كأنها تطيع والدي".
"الصباح يستفيق صافيا فيخرج الجميع للبذار".
"كنت وقتها صغيرْ،
ألاحق الدجاج والقطط،
وأنتشي لرؤية الشفق
ودفتري جدار مسجد قديم،
وحبري النزق". (20).
ويمعن الشاعر في رسم التفاصيل الصغيرة لعالم كان فيه فيذكر خبز أمه وابنة عمه وجدائلها الطويلة، إلى أن يقول:
"زمانهم مضى – وقيل: لم يعد.
إذًا
سنفنى واحدًا فواحدًا
وهكذا!
كأن كل ما يقال: كان ثم لم يعد؟". (21).
هذا الاستدراك يتبعه الشاعر بتأكيد وصراخ يلح فيه بطلب العودة لذاك الزمان قبل أن يأتي الموت:
"سُدّوا الوميض، رمِّدوا أحلامكم.
فلا حياة .. لا حياة.. لا حياة...
صرختي تواصل العبور.
أريد أن تعود قريتي،
وأمي الحنون،
والدي،
وأختي السمراء والطيورْ. (21).
يلاحظ خلال سياق هذه القصيدة التي جاءت تحت عنوان "السطور الأخيرة من سفر الألم"، فضلا عما ذكر أعلاه، هذا الجو السيابي (نسبة الى الشاعر بدر شاكر السياب) حيث الشاعر كان قريبا جدا من منطقة السياب الشعرية، بل ويمكن القول أنه غمّس يديه بمائه، وحاول التماهي الكلي مع أجوائه وعوالمه وشخوصه الشعرية، ولعل هذا يندرج أيضا في سكون المغربي في حالات الماضي الكلي، فيستعيد ما كان له، وما علق في وجدانه من شعر الآخرين كذلك.
لكن ثمة إشارات أخرى تبرز في ديوان المغربي وهي حضور الحزن والدم والموت بكثرة، ويمكن للقارئ أن يلتقط هذه الإشارات كيفما مر على القصائد:
جرحك جرحي دماؤك دمائي (11)، أتيت بحزني وحيدا (11)، ماتت التمتمات(12)، النخيل الحزينات، نشيخ بلا سبب (13) ، بكيت بباب عطفك (15)، الليل في انهماره يوقظ الدماء (18)، فرحتك الـ لا تدوم (22)، كان البكاء يلف المدينة، والقبرات على سطح جرحي (23)، أخاتل إحساس موتي (23)، وكنت وكان العويل (27)، أملّ من الحزن (28)، ولست – بليل وداعك- أذكر غير دموعي (39)، الموت سيأتي (31)، قلبي فزّاعة أطفال (51) والجراح- طريّة في كل قلب- نفسها (55) ويموت جيل، يرتشي الحراس، ينتحر الإمام (56) القادم يقتلنا(61)، سارس (68) قلبي شحيب كظهر البرد (73) وهج العتمة (107)...... .
هذا الحشد من صور الحزن والموت وتداعياتهما يختصر جو الديوان الذي لم يخرج من دائرة الذات المنكسرة الا خطوات يتيمة ليعود ملتحفا بـ "أناه" ودموعه، على الرغم من أنه حاول ان يتقدم نحو الأفق الا أن تقدمه هذا جاء مشروطا، وبالتالي لم يكن سوى خيبة أخرى وان لم يصرح بذلك، حيث يقول:
إني حبر التغيير،
وجسمكِ أوراق البعث العذراء.
أحبيني،
ولنخلق لهجة أطفال العصر" (52).
لكن هذا الخلق لم يحصل، ولن يحصل لأن الشاعر ما زال "يرنو الى نومة تحت ظل النخيل" (12)، وسعاد المرأة التي يخصصها في الديوان معادلة للجذور التي يتوق اليها ويريد "المبيت بحضنها"، فيقول:
"أتيت لأبحث عن بعض ما طار منك على عذق محزن"
"أرجع شاي الصباح وخبز العشيّ ودفء البيوت وبردا نفتته حول نار الشتاء" (14).
"آه لو أنك لم ترحلي، كانت الأرض أطهر والشمس كان تزفّ – وليس تموت – بكل مساء " . (14).
اذًا، أي لهجة سيخلقها الشاعر وهو الغارق في اليأس والموت وفتافيت ذاكرة همّها لملمة ما تناثر واستحضاره كصورة لا تبهت أبدا؟.
يلفت في ديوان المغربي كذلك، هو شكل القصائد، حيث يمكن أن يجد القارئ كافة الأشكال الشعرية والنثرية، فهو يضع قصيدته في القالب الأفقي والعمودي والمقطعي، هذا التنوع في الشكل هل يمكن اعتباره حالة تثري روح النص؟ ليس، بالطبع، هدف هذه المقاربة المتواضعة للديوان، أن تقدم إجابات ، بقدر ما تسعى لإلقاء الضوء والملاحظات، وليس بالضرورة أن يكون ما أثار انتباهي أن يكون مثار اهتمام القارئ.
"أخبئ وجهك فيّ.. وأغفو" صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ببيروت، ووقع في 112 صفحة من القطع المتوسط، وضم خمسة عناوين رئيسة، كل عنوان ضمّ تحته عددا من القصائد، والعناوين هي:
المواويل – الفرح القاني – شجار الروح – اختلاج السر في كأس المشاع – خربشات مشاكسة.
يبقى أن نستعيد في الختام ما قاله الشاعر، ونستمع إلى التساؤل نفسه الذي حاول طوال الديوان قوله بعبارات مختلفة:
"لا أدري إن كنت سأرجع للحضن الدافئ.
فارقت – على مضض- عهد النزق الطّفليّ
مضيت – بلا تجربة – نجو مجاهيل البشر المسعورين
وحيدًا
... ... ... ...
... ... ... ...
إلا من قلبي! (108).


[email protected]
* في 5/ 9/ 2004.
* شاعر وصحفي لبناني
له: في الشعر: كناس الكلام. في الرواية: جنون الحكاية. ودراسة: الشعر والدين: فاعلية الرمز الديني المقدس في الشعر العربي.

انقر على ما يهمك:
عالم الأدب
الفن السابع
المسرح
شعر
قص

ملف قصيدة النثر
مكتبة إيلاف