صدرت مؤخراً في مصر المجموعة القصصية الأولى للكاتب السوداني "حسن إبراهيم" بعنوان "حكايات البيت المسكون:مشاهد من أم درمان"، التي لا تمثل قصصاً بقدر ما تمثل واقعاً حياً وفعلياً لشخصيات المجموعة التي تنبض حياة وألماً. فعبر ثلاث قصص طويلة، تمثل كل منهم رواية قصيرة، يقص علينا المؤلف عبر حبكاته أحداث ما بعد التمكين الإسلامي في السودان، وما جره على أهلها من بؤس. فقصة تقوم على عودة بشر الحافي إلى الحياة، وصدمته مما يحدث لميري الشابة، التي يقابلها مصادفة في الطريق ويسألها عن حال أهل البلد العجيب الذي وقع عليه، فيكتشف كيف تعيش ميري وغيرها من نسوة كن عزيزات وتم إذلالهن وأقوامهن، فباتت الواحدة منهن تبيع جسدها ألف مرة للعسكر الذين حكموا عنوة، لتسد رمقها أو حتى لتقتنص فرصة الحياة ولو بغير ما يسد الرمق، أو يغمس حتى في التراب.
وقصة تقدم تفاصيل ما حدث حقيقة لمواطن سوداني داخل معتقل تعذيب، يقع وسط الأحياء السكنية في العاصمة. فالمعتقل ما هو إلا بيت كبير مما يطلق عليه بيوت الأشباح، وهو البيت الذي يبتعد عنه الجميع بوصفه مهجوراً، ويعتقد بسطاء العقول أنه "مسكون"، لكن الجميع يعرف ما يتم فيه ليل نهار من تعذيب مواطنين، كل جريمتهم أنهم مارسوا التفكير وتكلموا، وربما منهم من لم تتح له الفرصة في الكلام، وتم ضبطه متلبساً يفكر، فحوكم بجريمة محاولة إطفاء نور الله، وتم اغتصابه بأنبوب حديدي، وهذا أفضل حالاً من غيره من النساء والرجال الذين يتناوب عليهم حراس البيت المسكون يومياً. وتأخذ الأحداث أبعاداً دراماتيكية حينما يتكاتف نزلاء البيت المسكون مع نزيل جديد، هو الشيخ سودان الذي يبلغ من العمر أرذله، وسبق قتل ابنته واغتصابها في نفس النزل، بعد أن اختطفت من بيتها الآمن لأن أخيها حاول إطفاء نور الله، فأطفئت حياتهما معاً، وجاء الدور على الشيخ الهزيل، فقام النزلاء المنتهكون بشبه إضراب، فأغلقوا سجنهم من الداخل بمتاريس أجسادهم، وأنشدوا أغانيهم الوطنية التي صمت آذان الحراس الذين انقلبوا أنفسهم سجناء، لتنتهي الأحداث نهاية دامية متوقعة في مجزرة تعسة.

أما قصة أيوب مع الناطور ذي السحنة السمجة، التي تدور أحداثها في أروقة مؤسسة الدولة الثقافية، فتعري المثقف العربي بشكل عام، في صورة المثقف أيوب الشيوعي السابق الذي يبيع نفسه أولاً، حينما يمتشق حسام القلم فيما كان يتعلم طوال حياته لمحاربته، ويكتب عن ما يسمى الأدب والفن الذين يخدمان الله والرسول ورفعتهما، بينما تزل قدمه إلى ما هو أبعد من بيع النفس، فيبيع جسده حين يصبح عشيقاً حقيقياً للشيخ الشاذ جنسياً، الذي يراوده عن نفسه مراراً وتكراراً في مشاهد برع المؤلف في نسج حواراتها، وكأننا نتابع فيلماً هزلياً لعاشق يطارد عذراء.

والقصص الثلاث، أو الروايات الثلاث القصيرات، تطرح من خلال أحداثها المتشعبة وضع الإنسان العادي في السودان، الذي يمثل أغلبية السكان، وإن لم تف كلمة أغلبية بالغرض،فهذا المواطن يعاني الفقر الذي ينهش عظمه، مع ما ينهشه من أمراض وأوبئة.وإن لم يمت بهذا أو ذاك، أو تحول بجهله أو شره لقاتل، فأعراس الشهداء مثواه، فسوف يتم تدريبه صغيراً أو كبيراً ليشحن إلى الجنوب ليقاتل من أجل إعلاء كلمة الله، وغالباً يُرد إلى أهله قتيلاً...عفواً شهيداً، ليقام له عرس الشهيد، ولا يحق على أهله سوى الزغاريد فرحاً بشهادته.

هذا باختصار شديد وأتمنى أن لا يكون مخلاً، ما تطرحه هذه المجموعة، بلا أي رأي نقدي، و هي تعبر لمن يقرأها عن شهادة جريئة وصادقة يستشعرها مباشرة، وفي نفس الوقت تتمتع بحبكة الجو القصصي الذي يرتقي بمؤلفها ويضيف إليه. وإن كنت أرجو أن يكون قد استعد لما قد يواجه من هجوم لجرأة ما تحمله تفاصيل مجموعته