"ألف علامة وعلامة: حوار الثقافات"

الخط العربي بكل حرفياته وتقنياته وتنوعات أشكاله وطرزه وقيمه الجمالية والثقافية، هو أكثر من مجرد علامة من علامات التواصل اللغوي الثقافي، كما انه ليس مجرد فن حرفي يعبر عن تقاليد معينة، او وسيلة تجريدية شكلية لها علاقة مباشرة بالبنية اللغوية، انه الآن يعد واحد من مجالات الفن التشكيلي العربي وأكثرها أصالة وارتباطا بروح اللغة العربية، فهو عمل فني متكامل الشخصية، أكد حضوره كتيار في الحياة التشكيلية العربية والعالمية باسم الحروفية. تتسع التجربات الحروفية في العالم العربي والغربي في استنادها على معطيات الحرف ، لتتجاوز الصنعة الحرفية التي تمتهن هذه الممارسة كوسيلة لغوية ودلالة فكرية، لتحي العديد من تجارب المزاوجة بين الخط والتشكيل، ولتصبح ممارسة فنية متكاملة تهدف التعبير الذي لا يستبعد الوعي الخلاق في مراقبة عملية التنفيذ ومستبعدة الجمع بين الصدفة والحركة الآلية والمراقبة غير الواعية التي تنحصر عادة بالتزويق الزخرفي فقط. انها تجربة قادت العديد من الحروفيين الى ممارسة فنية متكاملة تثير لدى المتلقي قدرة التخيل ، حتى وان تمنع النص أحيانا عن إفصاح معناه، لان إيحاءات التشكيلة الفنية ، تظل تعبر كعطاء جمالي، لما للحرف العربي من قدرات جمالية كبيرة بتركيبته الطيعة، وإيحاءاته الروحانية الغامرة، وتفرده بسمات تشكيلية وتعبيرية متنوعة. الفنانان العراقيان محمد النوري أستاذ مادة الزخرفة في مركز الخط العربي والزخرفة في الشارقة، ووسام سعدي الحداد مدرس مادة الخزف في معهد الشارقة للفنون في المعرض المشترك مع الفنانة الحروفية الإيطالية بيبي تربوكي، الخطاطة والخزفية والمصممة، أقاموا معرضا مشتركا بكاليري " كانوفا" وسط مدينة روما تحت عنوان" ألف علامة وعلامة: حوار الثقافات" والذي أقامته منظمة" جسر الى " بالاشتراك مع كل من محافظة وبلدية مدينة روما، وصحيفة "الماسيجيرو" الإيطالية، قاموا بتجربتهم المشتركة ما بين اللوحة وقطع السيراميك بتجنيد جمالية وتعبيرية الحرف لخدمة الجمالية العراقية، بفكرها وثقافتها وإنسانها، وطرافة الحياة اليومية فيها، إيصالا لمعنى الفكرة المرتبطة بالتراث، ولتوحيد الهم ضمن بوتقة واحدة تحمل هوية العراق، مقدمة على أساس المحافظة على التراث العراقي، والمساهمة في تحديد ملامح الحركة التشكيلية العراقية، او مدرستة الحروفية كما يقال.
في تجربة اللوحة عند محمد النوري او تجربة قطعة السيراميك عند وسام الحداد، فهما يعطيان أهمية واضحة للحرف، من خلال هذا التنوع الجمالي الثري بتفاصيله ومصادره، بهدف إعطاءه تعبيرا ينبض بالحياة، تلتقي خطوطه، بدلا من ان تنفرج في نقطة مركزية محددة عند أفق هذه المحبة الكبيرة التي يحملونها لبلادهم ، اذ ان وقفة كل منهم مع الحرف هي للبحث عن ممارسات فعلية ابداعية ضمن المفاهيم الاصطلاحية لبناء العمل الفني بشكل مغاير للمنظور التقليدي الذي اعتاد عليه العديد من زملائهم الحروفيين العرب.وان تفاوتت واختلفت التجربة عند الفنانين النوري والحداد ، الا ان إدراك كل منهما للحرف شكل استقراء حسي للبحث عن الجوانب الجمالية فيه والتي جعلت لشكله وانسياباته ولونه مكانا هاما في تحقيق المدى التشكيلي الذي كانا يطمحان لتحقيقه، من اجل خلق توازن بين الكتل والحجوم، يرمي الى تحقيق نمط فني جديد يجيء لتلبية حاجات ملحة، فتراوحت الأعمال بين تعبيرات صوفية بدلالتها المعنوية، وبين الإشارة الى ما وراء الكلمات والحرف، للبحث عن خلفيات يمكن ان يستقصي منها المشاهد مدلولات لفظية لتحقيق التناسب والتناظر ما بين الشكل والفراغ المحيط به، كي لا يخلق قطيعة بين توجهات هذا الفن والذوق السائد سواء كان عربيا او غربيا.
إيصال التراث من خلال استخدام أساليب معاصرة هو اتجاه واضح في اغلب الأعمال المعروضة في هذه القاعة التاريخية الجميلة، من اجل تعزيز القدرة على استلهام الاصالة، عبر رؤية حديثة، تعتمد على ترابط الآية القرآنية، او البيت الشعري وتزامنيهما مع كثافة الإحساس ، حتى من خلال ترميز الحروف بغنائية تعبيرية لتكريس مفاهيم شعرية ووجدانية دينية. زخرفة اللوحة التي تشد المشاهد بدقتها وأناقتها، وشفافيتها ، تتمثل في القصائد التي اختارها الفنان التشكيلي محمد النوري بحس جمالي،مستخدما اللون المشع، الدافيء، المتناسق، وهو يبسطه على سطح الكنفاس الذي عتّق أرضيته بألوان الزمن الغابر، كأنه يطرز فيه احدى قطع السجاد الإسلامي. اما الخطوط فتجيء تعبيرا عن فضاء تخيلي، عن صفاء الحس بتناسب محسوب مع الخلفية والشكل، لتؤكد القيمة التعبيرية عن خلجات النفس، ومكونات الفكر المناط بالحرف العربي ، حيث بذل هذا الفنان حرصا كبيرا على ان يلتزم بقواعده ونظمه وأجناسه وكأنه امتنان للزمن. فهو يثير في النفس قراءة تشكيلية جديدة اذ ادخل الحرف في كينونة الشكل ليعكس تشابكا هيكليا، تتلبس فيه المنحنيات، وتتقارب الخطوط المستقيمة، عبر إيقاعات شعرية تنطق بفحوى أبيات القصيدة التي اختارها، من خلال بناء متين وتعادل مريح للعين بهدف اعطاء المضمون قيمة تعبيرية بألوان شرقية تحمل الكثير من الهدوء والدفء، فشغل سطح اللوحة بمهارة التوزيع المتكافىء، بين كتل الخط والتفاصيل الزخرفية، وبين الفراغات التي شحنها باللون وتموجاته الصافية( الأخضر، البنفسجي، الأحمر، القرمزي، الأزرق..)، ليقدم تصوره الخاص للمساحة التي تغطيها كتلة الحروف، بأمانة جمالية لا يمكن بلوغها الا بسحر انحناءاتها، وكأنها تقود المشاهد نحو تحليل عام ودقيق للروح الإنسانية، باعتبارها صيغت من التباسات صوفية وباطنيات شخصية، تكفي للتعبير عن حالات من الفرح لهذا التزاوج بين عالمين، يتم التعبير عن المدى الفضائي لا بواسطة الخطوط وحدها، بل وبمزج الألوان وتدرجاتها. ومن هنا ظهرت إمكانية هذا الفنان المقتدر من صنعته كرسام تشكيلي، في وضع سلم رقيق للقيم اللونية المطلقة والتمهيد لخلق لغة فنية حوارية جسدتها حروفه بعدا او قربا.
أما وسام الحداد، الذي ادخل الحرف الكوفي الذي ظل عنده بعيدا عن التزجيج ليظل محافظا على لونه الطيني، فقد بنى هياكله الخزفية اللامعة ذات السمات المعاصرة ليخلق تألفا ما بين المادي والروحي، التراثي والمعاصر لبناء الشكل الخزفي الذي زاد من اكاسيده اللونية من اجل محاكاة تراثه ، بمدلول لفظي مقروء، وسد فراغاته داخل كتلة الخزف بحس إسلامي منمق، فقد خلق صحوة جديدة، تتناسب وتتوازن مع الوحدة الخزفية، بهيئتها وألوانها العربية، صنعتها يديه بتأن، حتى أصبح كل منهما أي اللون والشكل يغذي العمق التشكيلي، ليستنهض هذه الهياكل، بالمدلول التعبيري واللفظي . الحس الصوفي للحرف واضح ، وهو ظل قاسما مشتركا عند الفنانين، في تمثيله الإيهامي لما تراه العين البشرية وهي تحدق في هذا الحقل البصري الذي تتجه تشكيلاته كلها نحو نقطة مضيئة بالألوان تلتقي عندها التقاطعات في الوسط حيث كل شيء يأخذ مكانه في فضاء لا ندركه الا بمنظوره البصري، ليس بأناقته التي تعكس نفسها للمشاهد بشكل واضح ودقيق، بل والتقييد بقواعد الصنعة، حتى بدت تترآى للمتلقي ليتحسسها من خلال طواعية التعبير في الشكل والخلفية ليكون قوة تعزيز وتأثير، تتسم بالزخرفية أحيانا، وكلغة تدوين، وعنصر أساسي لبناء العمل الفني في أحيان أخرى على اعتبار ان الروح التعبيرية في التشكيلات الخطية هي انعكاس لحالة كل من الفنانين، وهي إضافة لذلك نتيجة لإحداث عراقهما، الذي كانا يهدفان لان يكون حاضرا، في كل كلمة وحرف وطين عصرته اصابعهما بقوة القصبة ومداد اللون.